حواشٍ تفاعلية مع رؤى الأسد الفكرية:



1_د.سلطان المعاني :



يبرز العلاّمة د.ناصر الدين الأسد في كتابيه "نحن والعصر" و"نحن والآخر"، حقيقة الخطر الكامن وراء سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، حيث زادت الحملات التي يتعرض لها الإسلام والمسلمون ضراوة فألصقت بهم تهم الإرهاب والتطرف، في حين تناسى العالم وتغافل بشكل متعمد الإرهاب الصهيوني وممارسات العنف الصربي الأرثوذكسي وما رافقه من اغتصاب للنساء وتدمير وتشريد, أو تلك الأعمال الإرهابية التي مارسها الكاثوليك في كل من ايرلندا الشمالية وكرواتيا. ويربط الأسد ذلك بمسألة تفسير الأصولية ونشأتها ودسِّها "دسوها علينا"، بمعاني تخالف المعنى الأصلي في تراثنا مبرزا خطورة المصطلح كأحد أدوات الصراع التي جيرت لتشويه الصورة.



وينبه الأسد إلى ضرورة إدراك أن "سوء تطبيق المبدأ لا يعيب المبدأ نفسه"، وهو ما فعله الآخرون المتربصون بنا، مؤكدا أن محاكم التفتيش ليست المسيحية، وبالتالي فمن المؤكد أن ما يمارسه بعض من ينفخون أوداجهم في سبيل الإسلام من سفك لدماء الأبرياء لا يمثلون حقيقة الإسلام.



ويمضي الأسد في حمل القارئ إلى التفكير بعمق في أطروحاته التي يتناولها، ولعل كتابيه المشار إليهما من أهمِّ ما كُتِبَ، بما يتضمنانه من رؤى تدعو إلى استنباط أحكام تنطبق على الواقع المعاش وفق فهم جديد متطور لفروع الفقه وأحكامه انسياقا مع الفهم الصحيح للإسلام وأصوله دون المسّ بثوابته من حيث هو دين صالح لكل زمان ومكان.



في تبيانه لموضوع الحكم والحكومة في الإسلام معناها وطبيعتها، يرفض الأسد تسميات أطلقها بعض الباحثين، محرّفين الكلم عن مواضعه، مدّعين أنها حكومة دينية أو ثيوقراطية تقوم على الجبرية الغيبية، حيث لا مجال لحرية الفرد فيها في خيار الأمة, فالحكومة الدينية يقوم عليها رجال الدين شأنها شأن أوروبا في بعض عصورها، حين سادت الكنيسة محتكمة إلى الكهنوت مستمدة سلطتها من الله عادّةً الحكام ممثلين له, وهو أمر لا يقره نظام الحكم الإسلامي, فاختيار الحاكم في الإسلام يرتبط بعدد من الأصول أهمها البيعة التي يشترك فيها جميع أفراد المجتمع المسلم رجالا ونساء وعبيدا حيث يتم اختيار الحاكم بما يتناسب وأحوال الناس ويحقق غاياتهم، "وكل هذا مختلف أشد الاختلاف عن ديمقراطية اليونان, وعن الديمقراطيات الأوروبية والأميركية".



فالسلطة في الإسلام بشرية تستمد شرعيتها من البيعة والشورى، حيث تركهما الله ورسوله دون تحديد لأطرهما ووسائلهما، فالمسلمون هم من يختارون ويحددون هذه الأطر والأساليب بما يتوافق وأحوال عصرهم الذي هم فيه, ويتلاءم وأحوالهم السياسية والاجتماعية والفكرية, وحقوقهم الإنسانية التي حرص الإسلام على صونها، في حين تبدت ديمقراطيات الغرب ذات معايير مزدوجة، فكثيرا ما تبرز ادعاءاتهم الزائفة حول حقوق الإنسان في ممارسات جلية مفضوحة.



ولا يخفي الأسد رفضه تسمية "الأقليات"، فهي "مصطلح غريب عن موقف الإسلام وروحه"، فالمسلمون أطلقوا على الآخرين يهوداً ونصارى مصطلح أهل الذمة حيث كانت حقوقهم جلية, فالأقليات العرقية ليس لها وجود في الإسلام فلا فرق بين الفارسي والرومي والهاشمي القرشي إذ تربطهم وحدة النوع الإنساني ووحدة الدين منذ عهد نوح وصولا إلى محمد بن عبد الله, مع إقرار الإسلام حرية عقيدة الآخرين, ورفضه لكل من يحاول الاعتداء على عقيدة المسلمين، ففي المجتمع الإسلامي تتعدد الأجناس والأديان واللغات "في إطار منظم من وحدة النظام الإسلامي التي تسمح بالتعددية والقائم على الحرية والكرامة الإنسانية"، وهو أصل من أصول نظرة الإسلام للأقليات وفق التسمية الغربية, مع عدم إقراره بفكرة النظام الغربي القائمة على الأكثرية والأقلية, فالجميع يجتمعون في جسم الأمة الإسلامية، لكل فرد حقوق وعليه واجبات.



ويعرض الأسد هذا الإطار عدداً من الشواهد، يسوق من بينها ما كتبه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لعامله على البصرة: "وانظر من قِبلك من أهل الذمة من قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب, فاجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه". إنّ موضوع الأقليات في الإسلام من المواضيع التي جلبت وافتراءات عديدة على الإسلام والمسلمين مردها الجهل أو العصبية، وما قد يتبدى من ممارسات مرده تطبيقات مخالفة لروح الإسلام من فقهاء يصدرون أحكاما بالغ في تطبيقها العامة.



إذا كان موضوع الأقليات بشكله الغربي قد فتح الباب أمام عدد كبير من الافتراءات، فإن موضوع المرأة في الإسلام رددنا كثيراً من آراء الغرب فيه وعما عانته في العصور الوسطى, وكان هذا الترداد نتيجة عدم دراسة أصل الموضوع وفهم الدين، وهو عادة المغلوبين في كل عصر وكل أمة، حيث إسقاطات الثقافة الغربية على المفهوم الإسلامي، "وقد كان لنفر من المسلمين من غير العرب ممن كتبوا عن الإسلام أثر كبير في إظهار المرأة المسلمة في غير صورتها الصحيحة فقد ضيقوا عليها الخناق". ويفند الأسد هذا، حيث يؤكد موقف الإسلام المعظِّم للمرأة، فهي متساوية مع الرجل مساواة تامة في غير الأمور المتصلة بتكوينها كأنثى, ومساواتها في الرجل "مساواة تماثل وتطابق"، وقد نظم الإسلام شؤونها رافعا عنها أنواع الظلم الذي عاشته قبل الإسلام وفي ظل الأديان الأخرى, وجعلها مشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والعلمية.



ويتناول العلامة الأسد عدداً من القضايا التي أسيء فهمها حول موقف الإسلام من المرأة، كتلك المتعلقة بموضوع الإرث والقوامة وتوليها للمناصب فعالج جلها معالجة علمية دقيقة وبنظرة كلية غير مبتورة, لينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الكرامة الإنسانية –جذورها التاريخية ومخاطر التطرف- حيث يستند الأسد إلى القاعدة الكلية التي تستقي من قوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"، وهنا يبرز أسباب الحكم العام في التكريم والتفضيل دون افتئات على مراد الله من هذا التفضيل, فالإنسان وفق إرادة الله خليفته في الأرض هيأه لذلك بأن علّمه البيان ومنحه العقل, وسخّر له ما في الأرض جميعا, وقد ترتب على هذا التفضيل والتكريم تبعات يكابد الإنسان في سبيلها.



وفي حديثه حول كرامة الإنسان يبين لنا أن الدين لا يقبل الطائفية التي تؤدي للتمزق والافتراق، وهو أمر شاع قبل الإسلام في كل من اليهودية والنصرانية، فقد انتشر اضطهاد الفرق القوية للفرق الضعيفة، واحتكر الأقوياء الدين والإيمان وفسروه كما أرادوا فارضين آراءهم على من سواهم.



ويؤمن الأسد بأن الحوار حالة حضارية تبادلية بناءة، سواء مع الذات أو مع الآخر، تفضي إلى خطاب مشترك، يحتكم إلى الفكر والعقل والبناء المعرفي المستنير، الذي لا يغلق منافذ القلعة نافياً حق الآخر في الاختلاف، ومعترفاً بدوره في الإسهام الإنساني القائم على التكافؤ بحق الوجود والأمن والسلام، ومقراً بإسهاماته المخلصة في البناء الحضاري وفق المعطيات التي أتيحت له.



إن عالمنا العربي إنسانا واعتمالا حضاريا يطفح غنى وتعدداً في جغرافيا التفكير وتلاقحاً في رؤى الحوار بين الذات والآخر، ونبشاً لمفاعيل التلاقي الثقافي والحضاري التي توطن الحوار وضرورة استمراريته للوصول إلى قواسم خطاب مشتركة ومنصفة. وينسحب هذا المحور على جعل الإسلام والتفاعل الحضاري مدلاجاً لفكرة الحوار لا الصراع مع الآخر، وهو موضوع يشغلنا في كيفية مواجهة ما يعترض الإسلام السمح وأهله من هجمة ظالمة، إذ كان لأبناء جلدتنا إسهام في تفاقمها.



فتحت عنوان "الإسلام والثقافة العربية في عالم جديد"، يبرز العلامة الأسد خصائص هذه الثقافة التي يمتاز بعضها بالثبات حيناً مبينا الجوامع المشتركة بينها وبين بقية ثقافات المعمورة سواء في المنهج الذي يضبط مسيرتها أو المحتوى التي تعبر فيه عن نفسها متتبعا تطبيقات كل منها.



إن منهج الثقافة العربية يستقي من روح الإسلام ونظرته إلى الإنسان وأنواع نشاطه الفكري والوجداني حيث عمل الإسلام على تكوين عقل المسلم وتوسعة مداركه وبناء شخصيته العلمية, ثم جاءت الكتابة ظاهرة لغوية فكرية سخرت لإطلاق العقل من أغلال الخرافات وتحريره من الأباطيل كي يتمكن من الفهم الصحيح للنصوص وتطبيقها بعيدا عن الحفظ والترداد لتسهم في نهاية الأمر في تكوين العقول وتبني الثقافة دون الاعتماد على الحواس والاحتكام إلى الدليل بعد الشك لإثبات الحقائق، وهي وسائل تضمن استمرار هذه الثقافة وما لها من سمات كالتسامح والحث على الاجتهاد.



ولما كان الإسلام دينا عالميا، فقد جمع بين علوم الدنيا والدين، فبرز فيه عدد كبير من العلماء الذين اشغلوا العالم بعلمهم فمرت الثقافة العربية عبر عصورها ازدهاراً إلى أن وصلت إلى حالة من التخلف والانحطاط بانسلاخها عن منهجها فلازمها الظن بأنها ثقافة الحفظ والرواية مقتصرة على العلوم الدينية واللغوية والأدبية, لا علم ولا فلسفة فيها، وانتشر الاعتقاد أنها جامدة وقفت عند مرحلة لم تستطع تجاوزها, ولعل تجلي هذا كان في عصرنا الحالي نتيجة لعجز أهلها عن إدراك المنهج العلمي الإسلامي بمعالمه الواضحة المحددة, فأخذ العالم المتحضر يقفز ويعدو مسرعا ويرتقي, ونحن متفرجون نستورد نظرياتهم ونترجم لهم دون تشكيل لأصول أو أدب أو فكر فوصلت حياتنا الأدبية والعلمية حد الانهيار. إن الثقافة العربية في عالم جديد هي ثقافتنا الأصلية المعتمدة على جذورها وثوابتنا المعبّرة عن ذاتنا، وهي قادرة على أن تعود لتحقيق ذاتها حتى توقفنا عن التقليد.



يؤكد الأسد أنه لا بُدَّ أن يتخلل كل صراع حوار يسبقه أو يلحقه, فالحوار في حقيقته مواجهة وصراع بين أفكار ومواقف, ومهما حاولنا التغلب على شعورنا فإن وجه المستعمر واحد يعود لنا في كل مرة بشكل جديد فيغلبنا, فبين سايكس بيكو وحرب الخليج 1991 امتداد وتجديد لكل الغزوات التي استشعر لهيبها أجدادنا وآباؤنا منذ سقطت الخلافة وما تلاها من تقسيم لبلادنا وإقامة الحدود والحواجز فيها, فكلها معركة واحدة تظل تعقبها معارك "ما بقينا وبقوا"، حيث كانت دار الإسلام دائما مسرحا لحروب متعددة وستظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, وستبقى هذه المنطقة -الشرق الأوسط- والتي حقها أن تسمى "الوطن العربي", تحتضن رحى هذه المعارك غالبة ومغلوبة, وكذلك هي الدعوة للسلام الشامل دعوة قديمة استهوت الفلاسفة والمفكرين, فقد حاول الرومان تطبيقها في إمبراطوريتهم, فنشأ ما يعرف بعصر السلام الروماني وعّمر قليلا ثم ما لبث أن انهار، "فالسلام هو دورات زمنية بين معارك وحروب, وهو أمر ضروري لاستئناف تلك المعارك, إذ من خلال هذه الدورات السلمية تنشأ أجيال وقيادات جديدة معبأة نفسيا لمواصلة القتال بعد أن نسيت أهوال المعارك السابقة".



وتستوقفني في قراءة فكرة الأنا والآخر مسألة الحوار العربي الغربي وأوجه العلاقات بين العرب والغرب، التي تتناوب بين العلاقات السطحية والقلقة والمتذبذبة وغير المتكافئة من زاوية، والرؤية الضبابية والسلبية ذات التجذر التاريخي والديني والتربوي، والمحكومة بفروضات استباقية تتكيء على آراء اللاهوتيين والمؤرخين والخيال الشعبي، ثم تضخيم بعض الرموز والأحداث في التاريخ العربي المعاصر لتشكل الرؤية والقناعة النهائية عن العربي أو المسلم من زاوية ثانية.



وفي منحى مقابل، وضمن إطار الحوار مع الآخر، لا بد من التأكيد على إبراز قيمة التكاملية الاقتصادية العربية وعلاقاتها مع الاتحادات والتحالفات العالمية مثل الاتحاد الأوروبي، سواء في الاتفاقيات الثنائية، أو المشتركة، التي تشكل أساً حقيقاً يشرعن ضرورة الحوار ويكرسه. فالحوار لا تكرسه العلاقات السياسية فقط، بل لعلها عائق أمام تشكل هذا الحوار، فلا بد من البحث عن القواسم النفعية المتبادلة اقتصاديا وأمنيا واجتماعيا وإداريا، وهي مقدمات حقيقية في سبيل تعظيم فوائد الحوار مع الآخر ضمن حلقات حتميته وضرورته، وفي سبيل هذا لا بد من تعالٍ كبير على الجراح يوقف النزف الإنساني دماً وجهداً وكرامة، أملا في غد تنفتح فيه أبواب القلوب والأذهان والخيرات من غير جدر العقليات المسكونة بالماضي نهوضاً إلى الأوليات وحوار نحترم فيه الذات والآخر.



ويرى الأسد أن أهم أسباب توالي الحروب بين العرب والفرنجة هو "أن الغالب القوي يرى المغلوب الضعيف غنيمة كاملة له، اكتسبها بحكم ما حقق عليه من نصر"، فالغالب يفرض على المغلوب شروطا تسلبه كثيرا من حقوقه الإنسانية وتسلبه ثقافته وشخصيته وتفرض عليه تقسيماته فتجعل الأمة الواحدة أمما والوطن الواحد أوطانا يقيم فيه كل ما يكرس تجزئته فتنشأ أجيال تدافع عن هذا التقسيم بعد أن كانوا ثائرين عليه لما حققه لهم من مكاسب, ومن هنا فإن كل نصر من هذا النوع يحمل في طياته بذور الهزيمة لأن "الجمرة تظل متقدة في أعماق الشعوب".



وفي تعرضه للشرعية الدولية والاستعمار الجديد، يبدي الأسد ملاحظاته حول المصطلح والمضمون، فيولي قضية تعريف المصطلح لفظا ومفهوما أهمية كبرى مبينا مبررات ذلك, فقرارات المحافل الدولية والمعاهدات تحتمل تفسيرات تختلف باختلاف الظروف نتيجة لعدم تحديد الألفاظ والمصطلحات, ويؤكد الأسد ما يقال عن مهارة الإنجليز في صياغة الألفاظ والعبارات في الرسائل والمعاهدات ليختلف الناس في تفسيرها بعد ذلك, وليستطيع الإنجليز الاستفادة منها بعد ذلك, فبعض الألفاظ تكون مجردة أو مطلقة غير محددة الدلالة فتكون أقرب للشعارات التي يهتف بها الناس دون فهم معناها أحيانا, فقد يكون للفظ دلالتين: الأولى لغوية والثانية اصطلاحية, تقتربان حينا وتفترقان أحيانا, ويضرب الأسد أمثلة ذلك في مصطلحي "الشرعية" و"سيادة القانون"، ويستفيض في تبيان الاختلاف حول مفهوم الشرعية, وكذلك مفهومي "إزالة آثار العدوان" و"إزالة أسباب العدوان"، فهذه المصطلحات تسخَّر لمصلحة الدول القوية.



وينتقل الحديث في "نحن والآخر" إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية, حيث أن "لكل حقبة قضية تشغل الناس وتستحوذ على الرأي العام, وتصاغ في عبارة موجزة تصبح شعارا لتلك الحقبة"، فقد انشغل العالم العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر في قضية الإصلاح الإداري في الدولة العثمانية، ثم انتقل إلى اللاّمركزية أو قضية الحكم الذاتي، ثم انشغل بالاستعمار وتقسيم البلاد، ثم كانت قضية الاستقلال والوحدة والتجزئة والاشتراكية والعدالة الاجتماعية وغيرها من القضايا، فلم نعد ندري ما هي قضية الحقبة التالية.



لقد بقيت الديمقراطية بمضامينها مطمح الإنسان في مختلف العصور, وهي اليوم مطلب ملح في ظل النظام الدولي الجديد مقرونة بحقوق الإنسان, وهنا يبين الأسد أن مواقف الدول الكبرى ليست مبدئية بل مواقف انتقائية تتغير بتغير المصالح، "فقد تغض الطرف عن الحكم الفردي وانتهاكات حقوق الإنسان عند دول تقتضي المصالح الاقتصادية للدول الكبرى غض الطرف عنها" وكذلك في مسائل الديمقراطية, وهنا يبلور الأسد مفهومَي "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" في تطورهما التاريخي وتناقض النظرة بين السماح في بعض الحقوق لمجتمعات معينه وعدم السماح لها في مجتمعات أخرى كتلك المتعلقة بلباس النساء، فيسمح للمرأة أن تركب القطار عارية الصدر أو حتى العري على الشواطئ، في حين لا يسمح ويحارب لبس الخمار والملابس المحتشمة, وبهذه التفرقة دلالة واضحة على ازدواجية المعايير التي تستبد بها الدول الكبرى.



أما في قضية العولمة فيتبدى السؤال: أين هي محددات هوية الأنا وهوية الآخر في ظل عولمة تعمل على تغيير نسيج التجربة الثقافية؟ إنها حالة تمس الهوية الفردية والجماعية والوطنية مساسا مباشرا عن طريق شبكة سريعة التطور متزايدة الكثافة وبمتواليات مترابطة وتبادلية في العلاقات الاجتماعية والمؤسساتية وفي التدفق السلعي والمعلوماتي وفي أشكال الاتصال. فلا شكّ أن العالم قد أصبح أكثر تقاربا من الناحية المكانية، وهو ما أطلق عليه ديفيد هارفي "انضغاط الزمان-المكان"، فقد جعل هذا التقاربُ العالمَ منكمشا، وهو ما أسماه مارشال ماك لوهان "القرية العالمية"، وما صاغته الأمم المتحدة في تعبير "جوارنا العالمي"، وصور هذا التقارب على أية حال مجازية مظهرية تعكس البعد الحميم للتقارب أو نقل البداهة والعقلانية المتزايدة للعلاقات الحقيقية. ويقوم العالم الآن وفق هذا إلى تحويل التجارب المكانية إلى تجارب زمانية.



ويبرز الأسد هنا مقولات صمويل هنتنغتون وفوكوياما, لينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن المسلمين ومواقف الغرب منهم، حيث يظهر المسلمون في وسائل الإعلام الغربية بمظهر المتخلفين ليتعدى ذلك إلى الازدراء والتنقيص من الإسلام نفسه، حيث أن العرب عندهم هم المسلمين متناسين أن هناك وجود مسيحي بين العرب, فهل العرب والمسلمون على جانب والغرب على الجانب الآخر؟ هنا، لا بد من التفريق بين الأفكار والمواقف وبين التعاون وتبادل العلاقات, إذ يجب الكف عن الوقوف موقف المشاهد في أجواء عدم الثقة, فحتى يتم التواصل يجب أن يحتفظ كل فريق بصفاته ويقبله الآخر على حاله وإلا انتفى معنى التواصل. وهنا تبرز أهمية الحديث عن العرب وعلاقتهم بالاتحاد الأوروبي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة وما نتج عنها من متغيرات من ازدياد لنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية وتسودها على العالم, ويطفو على سؤال عن كيفية العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والعرب؟ وهل يمكن تناسي ذكريات التاريخ ورواسبه الدينية والثقافية؟ وهل يمكن تغليب المصالح على إرث التاريخ؟ وتتبين لنا هنا أهمية توحيد المواقف وإن كنا دولا عدة كي نستطيع أن نكون فاعلين مؤثرين وأن لا نكون متلقين متأثرين فقط وأن نُكوِّن شراكة ثقافية اجتماعية وإنسانية في كيان واحد اسمه الأورومتوسطية، خصوصا في ظل ما تثيره العولمة كظاهرة من أسئلة, فهل يمكن فصل العولمة عن الهوية القومية والدينية للشعوب؟ وهل تتناقض هذه العولمة مع الديمقراطية والتعددية والتنوع الحضاري؟ وهل ستنتهي العولمة حقا بالتفاهم والسلام بين الشعوب؟ فالعولمة مصطلح يشبه الحداثة والخصخصة والنظام العالمي الجديد، فكلها الفاظ ومصطلحات "يذهب النقاد والمحللين مذاهب مختلفة في فهمها وتعريفها وتفسيرها"، فالعولمة عند العلامة الأسد كالحداثة سمة من سمات العصر الوقوف في وجهها أو تجنبها والعزلة عنها، "إنما هو خروج على العصر والتخلف وراءه... وعلينا الإسراع في دراسة عناصر هذه العولمة وفهم مكوناتها... ولا يجوز لنا التوقف مكتوفي الأيدي عاجزين عن القيام بعمل حقيقي وفعل أصيل... إن دعوتنا إلى التفاعل الثقافي مع العولمة أخذ وعطاء دون وجل ومن موقع الثقة بنفوسنا وبثقافتنا وبحضارتنا إنما تستلزم القدرة على الإسهام والمشاركة وذلك يتطلب منا أن يكون لدينا ما نسهم به ونشارك".



إن المفكرين والمثقفين العرب الذين زاروا الغرب في عصر النهضة وكتبوا عنه شجعوا على التفاعل الثقافي العربي الغربي، وعلى المثاقفة باعتبار الاختلافات الثقافية. وكان ذلك بعيدا عن الانطباعية والانفعالية سواء انبهاراً أو رفضاً، أو سَخَطَاً تجاه الممارسات الاستعمارية، فالحالة الانفعالية لا تعبّر عن إرادة الفعل، بل تكاد تكرس العقلية الاستهلاكية، لتغدو العولمة تعويضا عن فراغ وإحساس بالنقص تجاه عدم القدرة على الإبداع. وفي باب الوعي بالتحديات التي ينتظرها القرن الحادي والعشرون علينا استيعاب فكرة تهاوي عائق الزمان والمكان على الكوكب، وتلاشي الفواصل بين الأنساق السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وضرورة الحصانة لما قد يتوالد من داخل الفعل العولمي بحتمية اللحظة دونما وعي مسبق بحدوثها.



وإخال أن فكرتَي "نحن والعصر" و"نحن والآخر" تختزلان أهمية الدورة الثقافي وفق سياقات استشعار المعايشة ووعي الذات ووفق أُطروحاتٍ تُشكِّلُ الرؤية ومرجعيات الفكر واستلهام التراث. إن الثقافة والفكر نسيج إنساني متنوع يصبح وطنيا أو قوميا في مظاهره اللغوية والفنية والاجتماعية.. والمطلوب منا التحرر من الأطر الثقافية المرجفة والتي تدعو إلى التجزئة والتفكيك. ولا مندوحة لنا من وعي أهمية التجارب الفكرية التاريخية والتراثية العربية والإسلامية والإنسانية، مؤمنين بثوابتها في تأصيل الهوية واستيعاب الآخر، وأن نسهم في بعث روح ذلك الإرث واقعاً نهضوياً وواقعاً تعبويا قبالة قوى الجهالة والظلامية.



2_



جهوده في التصحيح اللغويّ



د.إسماعيل القيّام –



تصدّى عدد كبير من اللغويّين منذ العصور الإسلاميّة الأولى لظاهرة اللحن أو الخطأ في اللغة العربيّة، وقد قدّمت جهود هؤلاء العلماء خِدماتٍ جليلةً للّغة العربيّة، وساعدت في تنقيتها من أخطار التحريف والتشويه، وما قد ينتج عن اختلاط العرب بغيرهم من الأمم إن في امتداد الإسلام وانتشاره في قرونه الأولى حيث كان العرب المسيطرين، أو في أثناء الغزوات والحملات التي استهدفت البلاد العربيّة في ما تلا تلك القرون إلى أيّامنا هذه، وما رافق هذه الحملات والغزوات من محاولات الهيمنة الثقافيّة واللغويّة على الشعب العربيّ.



وقد حمل راية الدفاع عن العربيّة علماء كثيرون، بحثوا ونقّبوا واجتهدوا لتصحيح ما يشيع على الألسنة والأقلام من الأخطاء، فظهر من خلال مؤلّفاتهم وتصانيفهم في هذا الباب تراثٌ علميّ كبير. ومن أبرز من اشتُهر منهم من القدماء: الكسائيّ (189 هـ) وابن السِّكّيت (244 هـ) وأبو بكر الزُّبيديّ (379 هـ) وابن مكّي الصِّقِلِّيّ (501 هـ) والحريريّ (516 هـ). واشتُهر من المحدثين عدد أكبر من مثل: إبراهيم اليازجيّ وعبد الله البستانيّ وعبد القادر المغربيّ والأب أنستاس ماري الكرمليّ وإبراهيم المنذر وأسعد خليل داغر ومحمّد علي النجّار ومصطفى جواد وصلاح الدين الزعبلاويّ ومحمّد العدنانيّ وعبد العزيز مطر وإميل يعقوب وأحمد مختار عمر.



وما صنّفه هؤلاء العلماء وغيرهم في التصحيح اللغويّ يتضمّن أحكاما بالتخطئة والتصويب (الحكم بالصواب) يمكن أن تنقسم إلى: أحكام صحيحة وأخرى خاطئة. فأمّا القسم الأوّل (الأحكام الصحيحة) فيتمثّل بتخطئة الخاطئ، وتصويب الصحيح، ولا خلاف في هذا القسم. وأمّا القسم الآخر فالمراد به تخطئة الصحيح، وتصويب الخطأ. وهذا القسم هو الذي استوقف اللغويّين وحفزهم على مراجعة أخطاء سابقيهم والتنبيه عليها، وقد أُلّفتْ، بناءً عليه، كتبٌ في الاستدراك على اللغويّين، وتتبّع أخطائهم وبيان الوجه الصحيح في الاستعمال اللغويّ. ومن هذه المؤلّفات: كتاب "إصلاح الفاسد من لغة الجرائد" لمحمّد سليم الجنديّ (1925)، وكتاب "نظرات في اللغة والأدب – كُتب في نقد كتاب المُنذر" للشيخ مصطفى الغلاييني (1927)، وكتاب "الاستدراك على كتاب قل ولا تقل" لصبحي البصّام (1977).



أمّا المقالات التي تناثرت في الصحف والمجلاّت ردّاً على اللغويّين واستدراكاً عليهم فكثيرةٌ جدّا. ومثلها ما تضمّنته بطون مؤلّفات التصحيح اللغويّ وإن لم تحمل اسم الاستدراك أو الإصلاح أو النقد، كمعجمي محمّد العدنانيّ في الأخطاء الشائعة. ولكنّ هذا لا يعني أنّ كلّ من استدرك على سابقه قد بلغ الغاية، أو قال قول جهيزة؛ فما تزال أقلام اللغويّين تتناول كثيراً من تلك المسائل اللغويّة التي استدرك فيها اللغويّون بعضهم على بعض. وفي خضمّ هذه الجهود اللغويّة الواسعة نقف، في هذه العجالة، عند جهود واحد من الأعلام، أصحاب المنهج العلميّ في التحقيق اللغويّ، هو د.ناصر الدين الأسد.



دواعي التصحيح عند الأسد



يثير شيوع لفظٍ أو استعمالٍ لغويّ على ألسنة أدباء هذا العصر وكُتّابه حفيظةَ لغويّين مشتغلين بالتصحيح اللغويّ، فيبادرون إلى بحث ما شاع ثمّ تخطئته في كثير من الأحيان، واقتراح بديل آخر له، متقعّرين في ذلك أشدّ التقعّر، ممّا يولّد في نفوس الناس الرهبة من اللغة، والإحباط من القدرة على استعمالها إلا تحت طائلة النقد اللغويّ والتخطئة. وقد كان هذا دافعاً من دوافع الأسد إلى البحث في عدد من ألفاظ اللغة وجموعها الشائعة على ألسنة الناس في هذا العصر حرصاً على تخليص أبناء اللغة من هجمة التخطئة، وحرصاً على سلامة العربيّة التي لا تكون بدفع الأخطاء وتصحيحها فحسب، وإنّما بعدم تخطئة الصحيح أيضا، لأنّ هذه التخطئة تقود إلى الفوضى والاضطراب، وفقدان التوازن لدى أبناء اللغة وكتّابها.



لذلك وقف الأسد في صفّ المدافعين عن العربيّة، الرادّين على من ضيّقوا واسع اللغة، وخطّأوا قدراً كبيراً من ألفاظها وأساليبها المستعملة على ألسنة الناس في هذا العصر، منطلقاً في ذلك من قناعة مفادها "أنّ كثيراً ممّا خطّأه هؤلاء العلماء هو صواب صواب، حتّى لقد بتنا محتاجين أن نردّهم هم إلى الصواب لننفي من نفوسنا ما أصابونا به من تحرّج حين نكتب، بل من فزع، خشية الوقوع في الخطأ مهما نبذل من جهد في التدقيق والتثبّت".



وهذه إحدى مزايا كتابة ناصر الدين الأسد في هذا الموضوع، إذ امتاز بها عن كثير غيره ممّن ألّفوا في هذا الباب؛ فهو ينظر إلى أمر التخطئة والتصويب من جهة تلقّي نتائجه ووقعها على الأدباء والكتّاب، ويشعر بشعورهم لأنّه منهم. فقد انحرفت كتابات كثير من اللغويّين عن مسارها الأصيل، وأصبحت مصدر رعب وفزع للأدباء والكُتّاب الحريصين على السلامة اللغويّة. ولأنّه لا يُفترض في كلّ أديب أو كاتب أن يكون لغويّاً متمرّساً في أساليب البحث اللغويّ، فقد وجد الأدباء أنفسَهم بين أمرين أحلاهما مرّ: فإمّا أن يجتنبوا كثيراً من ألفاظ العربيّة وأساليبها حرصاً على اتّباع "الصحيح والفصيح" كما رآه اللغويّون، وإمّا أن يمضوا في الكتابة غير آبهين بما يصدر من فتاوى لغويّة، فيوصموا بقلّة التثبّت وعدم المعرفة.



جهوده في التصحيح



لقد استعذب ناصر الدين الأسد مرارة البحث خدمةً للعربيّة، ولأنّه لا يستطيع أن يقبل الأحكام على علاّتها بلا مُرجّح أو برهان، ولا يستطيع كذلك أن يمضي في استعمال المُخطّأ –على طريقة الفرزدق- غير آبهٍ بما يقوله اللغويّون. فبدأ سنة 1969 ببحث "معاجم ومُعجمات"، ووصل إلى أنّ كلمة "معاجم" التي درج الناس على استعمالها جمعاً لـ"مُعجم" هي الوجه الصحيح، رغم تخطئة العلاّمة مصطفى جواد (سنة 1955)، ومن تابعه، هذا الجمعَ وقوله إنّ جمع مُعجم هو معاجيم أو مُعجمات لا معاجم.



واستطاع في بحث "نوادٍ وأندية" أن يصل إلى أنّ استعمال "النوادي" جمعاً للنادي هو الوجه الصحيح الفصيح، وأنّ الأندية جمع "ندِيّ" لا جمع "نادٍ"، رغم تخطئة إبراهيم اليازجيّ (في نهاية القرن التاسع عشر) وإبراهيم المنذر (في مطلع القرن العشرين) من يستعمل النوادي جمعاً للنادي. يقول الأسد: "وقد تعاقب بعد هذين العالمين نفر ممّن نسجوا على منوالهما، حتّى استقرّ في الأذهان –أو كاد– أنّ الجمع الصحيح لنادٍ هو أندية، وأنّه لا يجوز لمن يحرص على سلامة لغته أن يستعمل (نوادٍ)".



ومثل ذلك وصل في بحث "وديان وأودية" إلى صواب استعمال "وديان" جمعاً لوادٍ؛ وأنّ جمع "واد" على "أودية" هو صحيح على غير القياس، رغم تخطئة إبراهيم المنذر وزهدي جار الله جمع "واد" على "وديان". وكذلك خطّأ كثير من المحدثين كاليازجي والمنذر وزهدي جار الله لفظ "حماس" بالتذكير، ورأوا أنّ الصواب استعمال هذا اللفظ بالتاء، فنقول على رأيهم: "فلان كثير الحماسة". ولا نقول: "كثير الحماس". فبيّن الأسد في بحث "حماس وحماسة" أنّهما مصدران صحيحان، وأنّ وزني "فَعال وفعالة" قد تعاقبا في المصادر العربيّة حتّى شكّل ذلك ظاهرة تحتاج إلى تفسير، وساق كثيراً من الشواهد على هذين الوزنين، مثل: ضلال وضلالة، وسماح وسماحة، وكلال وكلالة.



وفي بحث "العشرينات والعشرينيّات" وصل إلى أنّ الأسلوب الفصيح الذي درج العرب على استعماله، في عصور الاحتجاج وما تلاها، هو استخدام لفظ العقد معرّفاً بـ"ال" للدلالة على ما ندلّ عليه اليوم باستخدام لفظ العقد مجموعا بإضافة الألف والتاء، وقبلهما ياء مشدّدة أو من دونها (العشرينات والثلاثينات... أو العشرينيّات والثلاثينيّات...). ثمّ قال: "ومن أراد المخالفة عن استعمالهم الذي ألفوه [أي العرب]، وأراد أن يُحدث كلاما جديداً، فلا بأس عليه من أن يجمع لفظ العقد فيقول: العشرينات والثّلاثينات.... أمّا ما سوى ذلك، كإضافة ياء النِّسبة قبل الجمع، فشيء تنبو عنه الأسماع، وتمُجُّه الأذواق، وليس ما يدعو إليه، مهما يُزيّنه لنا المزيّنون بتخريجاتهم".



منهجه في التصحيح



أوّل ما يلفت النظر إليه، أنّ هذا العدد من الألفاظ والجموع التي حقّقها الأسد في أبحاثه، ثمّ نشرها من بعد في كتاب "تحقيقات لغويّة"، هي من حيث عددها لا تبلغ عدد ما نجده في الصفحات الأربع أو الخمس الأولى من كتب التصحيح اللغويّ أو معاجمه؛ إذ ضمّت تلك الكتب موادّ كثيرة من الألفاظ والأساليب المُخطّأة وتصحيحاتها كما رأى مؤلّفوها. أمّا الأسد فإنّه لم يتناول اللفظ أو الجمع لذاته، وإنّما لشيوع صيغته وبنائه في ألفاظ أخرى كثيرة تشترك معه في الخصائص والأركان. فنحن مثلاً حين نقبل جمع "مُعجم" على "معاجيم" أو "مُعجمات" ونتخلّى عن "معاجم" التي هي الجمع الصحيح، علينا أن ننفي من استعمالنا جمع كلّ أوزان "مُفعَل" على "مفاعل"، وهي كثيرةٌ جدّاً، ونتكبّد عناء استعمال أحد الجمعين الآخرين الخاطئين، مع أنّ الوزن الصحيح المُخطّأ هو الشائع على ألسنة الناس في زماننا. وكذلك هي الحال مع بقيّة الجموع والألفاظ التي تناولها في أبحاثه.



ولأنّ الأسد على يقين من أنّه يردّ إلى العربيّة فضلا، ويُسدي إلى أبنائها خدمةً عظيمةً بنفي ما أُلصق ببعض أبنيتها وصيغها من تخطئة، فقد تجشّم عناء البحث في قضايا لغويّة شائكة، عسيرة المنال صعبة المتناول، تقدّمه في بحثها علماء كبار، وقطعوا القول فيها على خلاف ما يراه هو، ولم يثنه ذلك عن مواصلة البحث والتنقيب عنها في بطون الكتب والمعاجم، مهتدياً بالذوق السليم، ومستسلماً لـ"شهوة التنقيب"، بحسب تعبيره.



ومن الأمثلة على ذلك أنّه حين بدأ البحث عن "وديان" جمعاً لـ"واد"، بعد أن رأى من تقدّمه يخطّئها ويذهب إلى أنّ الصواب هو "أودية"، حاول أن يتلمّس الوديان في أشعار الجاهليّين والأمويين والعباسيّين، وفي كتب المسالك والبلدان ومعاجم الجغرافيا، فظفر بالأودية ولم يظفر بطِلبته (الوديان)، ولم يصرفه ذلك عن البحث، حيث يقول: "واشتدّ طلبي للوديان وحرصي على التنقيب عن هذا الجمع، ولكنّي لم أجده في ما قرأت من كتب تراثنا في اللغة أو الأدب أو التاريخ أو غيرها، حتّى أفسدت عليّ شهوة البحث عن هذا الجمع لذّةَ قراءة تلك الكتب، وربّما فوّتت عليّ فوائدَ أخرى كثيرة، ولجأت إلى المعاجم وكتب اللغة لعلّي أجد فيها ما لم أجد في غيرها، فلم أفز بطائل".



ورجع إلى المعاجم حتّى انتهى إلى الزَّبيديّ صاحب "تاج العروس" (1205 هـ) ولم يجد فيها غير "أودية"، وما وجد "وديان" في كتاب الله، بل وجد "أودية" في آيتين، حتّى قال: "وكان في كلّ هذا غناءٌ ومَقنع، وكان بعضه حريّاً أن يصرفني عن مواصلة البحث لولا اللجاجة وشهوة التنقيب". وهيهات لمثل الأسد أن يقنع! فقد واصل بحثه وتحقيقه وخلص إلى أنّ بناء "فُعلان" من أبنية الجموع العربيّة التي نصّت عليها معاجم القدماء وكتبهم ونصوصهم، وأنّهم نصّوا كذلك على أنّ جمع "وادٍ" على "أودية" هو على غير القياس كأنّه جمع "وَدِيّ" التي على وزن "فعيل" وتُجمع على "أفعلة" للقلّة، وعلى "فُعلان" للكثرة. وأمّا وزن "فاعل" للاسم والصفة الجارية مجراه، ومنها "واد"، فقد يكون جمعها على "فُعلان"، وذكر أمثلة كثيرةً على جمع "فاعل" على "فُعلان"، ومنها: راكب ورُكبان، وفارس وفُرسان، وواحد ووُحدان، وشاطئ وشُطآن. ولا يقلّ ما تجشّمه من عناء في بحث "حماس وحماسة" عمّا رأينا في البحث عن "وديان"، وحسبه من ذلك أن يجد كلَّ من كتبوا قبله عنها يُخطّئونها منذ مطلع القرن العشرين، ثمّ يصل، بالقياس وسرد كثير من النظائر، إلى صحّتها وصوابها وموافقتها لأبنية المصادر العربيّة.



والأسد حيث ينحو هذا النحو، وينتهج هذا المنهج، وحيث لا يقرّ مبدأ التسرّع إلى التخطئة، هو في الوقت نفسه يحذّر في أبحاثه من "خطر المنهج المخالف الذي يدعو إلى التوسّع في قبول ألفاظ كثيراً ما تكون على قياس غير صحيح لخفاء بعض عناصر القياس وأركانه الأساسيّة، وحين لا تدعو حاجة حقيقيّة إلى قبولها". فهو يرى أنّه لا بدّ مسوّغين رئيسيّين لقبول الألفاظ التي يشيع استعمالها في العصر الحديث، وهما: شيوع اللفظ وانتشاره في جميع الأقطار العربيّة (وهذه حال الألفاظ والجموع التي استوقفته للبحث فيها؛ فالمعاجم والوديان والنوادي والحماس والعشرينات وأضرابها هي الشائعة في الأقطار العربيّة، وهي التي وقعت عليها التخطئة في الوقت نفسه)، وشيوع صيغة اللفظ أو الجمع وبنائه في ألفاظ كثيرة أخرى تشترك معه في الخصائص والأركان، ممّا شاع في استعمال العرب الفصحاء.



ومن أبرز معالم المنهج الذي يتّبعه الأسد في تحقيقاته اللغويّة شدّةُ الاحتراز عند إطلاق الأحكام؛ فهو، على سعة اطّلاعه، وغزير معرفته، لا يؤكّد وجود لفظ أو ظاهرة ولا ينفيهما إلا في ما اطّلع عليه أو عرفه، ومثال ذلك قوله: "ولم نجد نصّاً فيما اطّلعنا عليه من كتب اللغة والأدب يجمع هذه الألفاظ التي أوردناها جمعاً سالماً، فلم نسمع: مُسندات جمعاً لمُسند، ولا مُصعبات جمعاً لمُصعب، ...". ومن ذلك قوله: "وكذلك لا نعرف أحداً من الكُتّاب والأدباء واللغويّين المحدثين –حتّى عهد قريب– استعمل (مُعجمات) جمعاً لمُعجم". ومنه قوله: "ولكنّنا لم نجد أحداً نبّه على خطأ هذا الجمع [النوادي] في ما اطّلعنا عليه من معاجمهم وكتبهم، إلا أن يكون غاب عنّا شيء من ذلك، والله أعلم".



ولذلك نراه يضيق ذرعاً بأحكام كثير من اللغويّين، على إجلاله لهم، لما يُطلقونه من أحكامٍ تعميميّة يصعب الوصول إليها، إن لم نقل إنّه مستحيل، ففي تعليقه على قول مصطفى جواد (والمعاجم لم يرد أيضاً في كلام الفصحاء) يقول الأسد: "أمّا أنّ (معاجم) لم ترد في كلام الفصحاء فقولٌ يحتاج إلى توقّف، ذلك أنّه لا يجوز لأحد أن يقوله إلا إذا أحصى جميع كلام الفصحاء، وأين هو ذاك الرجل!... وغاية ما يجوز لعالم أن يقوله: أنّه (هو) لم يطّلع على هذا الجمع فيما بين يديه من كتب القدماء الذين يُحتجّ بنثرهم وبشعرهم. أمّا التعميم وإطلاق الأحكام المرسلة فأمر يتجنّبه العلماء الأثبات ما استطاعوا".



ومن صفات العلماء أنّهم لا يقفون بالبحث عند حدود نشره في مجلّةٍ أو كتاب، فالبحث قضيّة يُفترض أن تبقى تؤرّق الباحث حتّى يصل فيها إلى اليقين والقطع، وهذا ما يتجلّى في دراسات الأسد وأبحاثه؛ إذ لا يقطع الأمر ولا يبتّه إلاّ إذا وجد من الأدلّة والمرجّحات ما يصل حدّ البراهين القاطعة، ثمّ هو يتابع القضيّة التي يثيرها في بحثه، ويتابع ما يستطيع أن يصل إليه فيها. ومن ذلك أنّ أبحاثه التي تقدّم الحديث عنها نُشرت بين العامين 1969 و1978. ثمّ حين ضمّها إلى ثلاثة أبحاث أخرى ونشرها في كتاب "تحقيقات لغويّة" سنة 2003، أثبت في حواشي الكتاب ما اطّلع عليه خلال المدّة الممتدّة بين نشر الأبحاث ونشر الكتاب. ومثال ذلك قوله في حاشية الكتاب (ص 30) في بحث "معاجم ومعجمات": "وقد اطّلعت بعد الانتهاء من هذه الدراسة، وقبل دفعها إلى الطّباعة، على مقالة محمّد خليفة التونسي في كتابه: أضواء على لغتنا السمحة: 48-50، الكتاب التاسع 1985 من كتاب العربي الذي تصدره مجلّة العربي بالكويت؛ وقد وصل فيها إلى الصواب".



ومن هذا الباب أُهدي إلى أستاذنا ما وجدتُ من شواهد النوادي في عصور الاحتجاج وما قاربها، فقد أورد الميدانيّ (518هـ) في مجمع الأمثال في حديثه عن المثل (زر غبّاً تزدد حبّاً): قال المفضّل: "أوّل من قال ذلك معاذ بن صرم الخزاعيّ"، ثمّ ذكر قصّةً للمثل فيها أبيات لمعاذ منها قوله: (ولسـتُ برِعديدٍ إذا راع مُعضِلٌ / ولا في نوادي القومِ بالضيّقِ المسكِ".



وجاء في "الإشراف في منازل الأشراف" لابن أبي الدنيا (281هـ): "أنشدني أبو زيد قال: أنشدني أبو نعيم العرزميّ: وأُعلنت الفواحشُ في النوادي/ وصار القومُ أعوانَ المُريبِ".



وفي ديوان ابن الرومي (283هـ) يمدح القاسمَ بنَ عبيد الله: "أريحيٌّ مُلَحَّظٌ في النوادي/ للأيادي يهُزُّكَ التلحيظُ".



وبعد، وعلى هدي مقالة القدماء: من يعرف كثيراً يغفر كثيرا، فإنّ منهج د.ناصر الدين الأسد في التحقيق اللغويّ يحتاج إلى قراءة متأنّية، تأخذ على عاتقها استنباط خصائص هذا المنهج، لتُقرأ في ضوئه كثيرٌ من كتب التصحيح اللغويّ التي باتت عبئاً على اللغة وعلى أبنائها، ووسيلةً من وسائل تخلّف لغتنا عن مواكبة العصر.



3_



العّلامة



















حسين نشوان



فَرِحون بهذا الملف الذي نخصصه للاحتفاء بعلم من أعلام اللغة والفكر والمعرفة، العلاّمة د.ناصر الدين الأسد.



وهو جزء قليل مما يستحق الأستاذ الذي أسس أول معهد علمي في الوطن، فكانت "الأردنية" صرحاً ومنارة، وله في الأوليات كثير، وشغل مناصب أكاديمية وإدارية نهض بها وارتقى بها إلى قامته، وظل صاحبَ الموقف والمبدأ في زمن عزّا فيه.



فَرِحون أن هذا الملف جاء بمساهمة من عدد من تلاميذه، وهم كثر، على امتداد الوطن وامتداد حدود العربية، تناولوا جوانب من سيرة الأستاذ، وجوانب من إبداعاته وإنجازاته ومؤلفاته في اللغة والترجمة والتحقيق والنقد والفكر والنثر والشعر، وقبل كل ذلك ما ترك في وجدانهم وَقَرّ في عقولهم وقلوبهم من سيرة الإنسان النبيل.



لم أكن من طلبته في مقاعد الدرس، غير أنني واحد من تلاميذ أستاذ الجيل ومريديه، كنت تشرفت بالمشاركة في إحدى حلقات المجلس الذي حمل اسمه، وكان يُبث على شاشة التلفزيون الأردني بتقديم أحد تلاميذه ومريديه، د.خالد الجبر، الذي بذل جهداً لا يبارى في إعداد هذا الملف والتحضير له بالاتصال بالمبدعين والأكاديميين العرب، وما كان لهذا الملف أن يَصدر بشكله وموضوعاته لولا جهوده ومثابرته وحبه.



في الحلقة التي حملت عنوان "الفنون الإسلامية" كان الأسد بحراً إذا حدّث، تجري اللغة على لسانه مجرى الماء الصافي والعذب، وعندما يستمع للآخرين يمتلك فضيلة الإصغاء بكل جوانحه، وتلْفِتك أناقته ويُبهرك حسه الإنساني، وهو وإن كان صارماً في موضوع اللغة إلا أن ملاحظاته إذا ما خالف المقابل، غالباً ما تمرّ على جناح الدعابة لفرط رقةٍ يتسم بها.



اللغة هي ما يقول الأسد، ذلك أن العربية سماعية يتشبع بها الإنسان بالدربة، زامنَ عمالقة النهضة العربية الثانية وحمل رسالتهم في التنوير، وأودع للمكتبة العربية نحو تسعين مؤلفاً في اللغة والتراث والفكر.



ربما يكون الأسد "راديكالياً" في الدرس النقدي واللغوي، غير أن ذلك يصدر عن انحياز صارم مقرون بالشك لتطبيق المنهج العلمي، وهو أكثر ما يكون انفتاحاً لروح العصر في القضايا الاجتماعية، وموقفه من المرأة تحديداً.



حاولنا في الدائرة الثقافية أن يكون للعلاّمة مساحة يُغْني بها "الملحق"، وقمنا بزيارته برفقة الزميل جعفر العقيلي، والجبر، فاستقبلنا بأجمل ما يكون المضيف، معتذراً، وودّعنا بهدية "غالية"؛ عناوين من "أسفاره".



بعد أيام وصلنا هاتف أنه يريد رد الزيارة، وهي عادة طيبة يُلزم بها نفسه لمن يزوره، وهيّأْنا لأن تكون زيارته مناسبة ثقافية ولقاء معرفياً، وشارك الزملاء في الدائرة الثقافية في حواره وسماع آرائه وأفكاره في غير موضوعٍ وقضية، ومنذُها قَرّت في وجداننا فكرة الملف امتناناً وإعراباً عن شكرٍ لوفادته.



فأرجو أن نكون وفينا الزيارة بعضَ حقها.



أما حق الرجل، فأظن أننا سنبقى مدينين له ما حيينا.







4_



قصته مع البغدادي



















حميد سعيد



في بداية عهدي بالكتابة في "الرأي الثقافي"، كتبت مادة تتعلق بأستاذنا العلامة ناصر الدين الأسد، حيث استمعت منه الى رأي لم يسبقه إليه أحد، بشأن واحدة ابن زريق البغدادي "لا تعذليه". يومها تلقيت عددا من الاتصالات يبدي أصحابها إعجابهم برأي الأسد، ويفكرون معه بما قال.



كان ذلك في السبعينيات، وبغداد في ذرى ألقها اليعربي، أما نحن فكنّا في مهرجان ثقافي، لعله كان مهرجان المتنبي، وكما هي بغداد، فقد دعي إلى ذلك المهرجان صفوة العلماء وكبار الباحثين من كل أنحاء وطننا العربي.



كانت السيارة تقلنا من باب المعظم عبر الجزء الغربي من شارع الرشيد وسارت بنا من ساحة تمثال معروف الرصافي، باتجاه جسر الشهداء إلى الكرخ، يومذاك كنت أجلس إلى جانب العلامة د.ناصر الدين الأسد، وإذ اقتربنا من مدخل الجسر من ناحية الرصافة، استمعت إليه وهو ينشد بصوت واطئ واحدة ابن زريق البغدادي:



"لا تعذليه فإن العذل يولعه



قد قلت حقّاً ولكن ليس يسمعه



جاوزت في نصحه حدّاً أضرَّ به



من حيث قدّرت إن النُصحَ ينفعه



فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً



من عنفه فهو مضنى القلب موجعه".



وإذ كان يواصل إنشاد واحدة ابن زريق هذه، بمحبة وإعجاب، ووصل إلى البيت الذي يقول فيه: "أستودع الله في بغداد لي قمراً / بالكرخ من فلك الأزرار مطلعهُ"، توقف بعض الوقت وقال: "أظن إن "فلك الأزرار" محلة من محلات كرخ بغداد، كانت مقام ابنة عم ابن زريق التي فارقها مهاجراً.



وكانت فكرة أطلقها الأسد في لحظة عابرة، من دون أن يحسب ماذا ستفعل بي وقد استمعت إليه لحظة قالها، وكانت الصدفة وحدها هي التي اختارتني لأكون بالقرب منه، حيث أطلق في ذهني عاصفة من الأسئلة، وكنت مثل آلاف الذين قرأوا واحدة ابن زريق "لا تعذليه" فأعجبوا بها وحفظوها ورددوها، فما ذهب بهم الفكر إلى ما ذهب إليه ناصر الدين الأسد، وكنت أرى مثل غيري أن "فلك الأزرار" هو النهد المدوّر الطالع من أزرار ثوبها.



وقلت لحظتذاك إن المنطق في صف فكرته، حيث تقيم الحبيبة في بغداد، بجانب الكرخ في محلة "فلك الأزرار" أو حتى في غير فلك الأزرار، ونحن ما نزال نقول: إن فلاناً يقيم في عمان بالقسم الغربي منها، في حي الرابية مثلاً، أو إن فلاناً يقيم في القاهرة بالجيزة، في حي المهندسين.



أما أن نقول: إن الحبيبة تقيم في الصالحية من دمشق، في الكحل العربي أو الورد الجوري، فذلك ما لا يستقيم مع أي منطق. ثمَّ افترضت أن يكون التسلسل الذي اختاره البغدادي لتحديد مكان القمر الذي استودعه الله، مجرد حالة شعرية، لا تحسب للمنطق حساباً، فإن فلك الأزرار حتى مع هذا الافتراض لا يستقيم، لأننا حتى يومنا هذا لا نعرف تحديداً دقيقاً له، ونقبل المعنى الشائع تجوّزاً.



ومرة أخرى فلنقبله على أنه حالة شعرية، لكن لماذا "فلك الأزرار" من دون القصيدة كلها، مفردات وأبنية، لا تذهب هذا المذهب ولا تبتعد عن المعنى شديد الوضوح؟.



قلت يومها: ليس من سبيل لتأكيد هذه الفكرة أو الإجابة عمّا تركت عندي من أسئلة، إلاّ بمراجعة ميدانية لمحلات بغداد القديمة أولاً، وقراءة ما كُتب عن خطط بغداد قديماً وحديثاً ثانياً، وبدأتُ رحلة البحث عن "فلك الأزرار" بسؤال وجهته إلى الشيخ محمد بهجة الأثري والشيخ جلال الحنفي والأستاذ عبد الحميد العلوجي والأستاذ سالم الآلوسي والأستاذ عزيز الحجية، وما لفت نظري إن كلّ واحد من هؤلاء العلماء الباحثين كان يأخذ فكرة الأسد على محمل الجد ويشاركني في القول بجدارتها، لكن من دون طائل.



ثم بدأت التنقيب في ما كُتب عن بغداد المدورة والقديمة، وتوقفت طويلاً عند كتب الخطط، القديم منها والجديد، تلك التي تتحدث عن مناطق بغداد ونواحيها وأحيائها وأزقتها، ومنها دليل خريطة بغداد، المفصل في خطط بغداد قديماً وحديثاً للعالمين الجليلين مصطفى جواد وأحمد سوسة و"تاريخ بغداد" للسمعاني و"بغداد مدينة السلام" لابن الفقيه الهمداني و"خطط بغداد في العهود العباسية الأولى" ليعقوب ليستر، وغير ما ذكرت من كتب وبحوث ومقالات.



وكنت، بل ما أزال أتوقف عند كل اسم محلة أو حي أو ناحية أو زقاق أو جادة، مما ينسب إلى بغداد القديمة، وبخاصة الأسماء التي تعرّف بالإضافة، أتأملها وأحاول أن أجد علاقة بينها وبين "فلك الأزرار" كما يفعل المحققون، لكن لم أصل إلى ما أريد، ومع كل هذا ما أزال أرى، إن "فلك الأزرار" أقرب إلى أن يكون مكاناً، وأبعد من أن يكون أزرار ثوب، رغم أن ما قاله ابن المعتز: "كأنما الشمسُ من أثوابه برزت / حسناً أو البدر من أزراره طلعا"، يوحي بغير ما ذهب إليه د.ناصر الدين الأسد.. لكن ما يزال السؤال إلى فكرته مفتوحاً.







5_



المفكر الملتزم المجدد



















د. طلال عتريسي - ثمة أبواب كثيرة يمكن الولوج منها إلى دار ناصر الدين الأسد الفكرية الرحبة. فرغم اهتمامه الرئيس باللغة العربية إلا أن مؤلفاته تجاوزت ذلك التخصص إلى قضايا الفكر والإسلام والحضارة والتربية والتعليم والحوار. وهي قضايا شغلت العلماء والمفكرين والمصلحين قديما وحديثا. وكان للأسد نصيبه منها، فأدلى فيها بدلوه الفكري الواضح الذي يختلف فيه مع كثير من المثقفين ومن المفكرين العرب أو المسلمين.



يبدو أن منهجية الأسد العلمية النقدية التي ذاع صيته من خلالها بعد كتابه الشهير حول "مصادر الشعر الجاهلي" هي التي قادت رؤيته الفكرية اللاحقة لكل القضايا التي تناولها بالشرح أو بالتحليل تارة، أو بالاختلاف مع ما هو سائد تارة أخرى. لذا لا يقبل ناصر الدين الأسد الأطروحات السائدة حتى لو كان المدافعون عنها كثرا. وهو لا يقبل الفكرة لأن قائلها فلان. ويكفي أن نراجع ما كتبه حول موضوعات عدة، لنتأكد من أن نقده العلمي طاول اتجاهات وممارسات إسلامية تارة، وأفكار الغرب وسلوكه وادعاءاته تارة أخرى، من دون أن يترك ذلك أي التباس حول انتماء الأسد وحول التزامه الفكري والحضاري العربي-الإسلامي.



وهذه الميزة بالذات هي ما تستحق التأمل في عصرنا الحالي عندما نقارن ما كتبه الأسد مع ما صار إليه حال كثير من المثقفين العرب والمسلمين خصوصا في تناولهم لقضايا الإسلام والعصر. وقلما نجد من يحرص على هذا الاتزان الدقيق (وهي مهمة شاقة بلا ريب) بين نقد الذات ونقد الآخر الغربي، وبين الدفاع عن الثوابت ونقد الممارسات التي شوهت تلك الثوابت الإسلامية. وليس من اليسير أن تجد من يقدر على نقد الأطروحات والمفاهيم الغربية، من دون الانتقال إلى عداء الغرب أو إلى التقوقع والانعزال.



تأثر المثقفون العرب والمسلمون بعد انهيار الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين بما سمي "الصدمة المباشرة مع الغرب". فانقسموا في تفسير ما جرى لهم ولأمتهم وفي تصورتهم حول المستقبل إلى اتجاهات عدة:.



- منهم من رأى أن تقليد الغرب في كل أحواله وشؤونه وقضاياه الإدارية والعسكرية وسواها هو السبيل المناسب لاستعادة القوة والنهضة.



- ومنهم من رأى في الانكفاء والانغلاق والتمسك بالتراث الديني والدفاع عنه وسد النوافذ أمام رياح الغرب هو الأجدى.



- ومنهم من حاول جاهدا أن يكتشف الطريق الملائم بين ثوابت تراثه الديني وبين تحولات العصر. وهذه الطريق الثالثة طريق شاقة من روادها ناصر الدين الأسد الذي لم يخشَ من انتقاد سلبيات تراثه ولم ينبهر ببريق أفكار الغرب في الوقت نفسه. مثل هذه المشقة هي التي تعبد طريق النهضة التي يبحث عن دروبها الكثيرون منذ القرن الماضي إلى اليوم.



كيف يعبّر ناصر الدين الأسد عن هذا المنهج الفكري في رؤية قضايا أمته وفي مناقشة ونقد قضايا العصر الذي تعيش فيه هذه الأمة، وكذلك المستقبل الذي تتطلع إليه؟.



- الديمقراطية ونظام الحكم: وهي من أكثر القضايا التي تعرضت للجدل والنقاش في بلادنا العربية خصوصا في العقود الماضية. وقد ساهم انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات في دفع هذا النقاش قدما بعدما رأى بعض المثقفين أن التجربة السوفياتية غير الديمقراطية قد فشلت، وأن على العالم أن يقتدي بالتجربة الغربية في نظام الحكم التي استندت إلى الديمقراطية في هزيمة المشروع السوفياتي المقابل. وبذلك يمكن لمن يقتدي بهذه التجربة ويطبق الديمقراطية أن ينجو من التخلف وأن يسير في ركب البلدان المتقدمة. طرح الغربيون أيضا مثل هذه الأفكار، وقالوا إن سبب العنف والتطرف والعداء للغرب هو غياب الديمقراطية، وأن على مناهج التعليم العربية والإسلامية أن تجعل الديمقراطية في مقرراتها الدراسية.



لم يتردد ناصر الدين الأسد في مناقشة هذه القضية. وقد استند إلى الفكرة الرئيسة في منهجه العلمي، وهي عدم الخضوع لفكرة مسبقة في تحديد نظام الحكم الملائم أو المفروض علينا. لذا يقول شارحا: "استعمال كلمة (الديمقراطية) قد يكون مضللا. وهي لفظة صورها متعددة ومختلفة في الغرب الذي لا يكف عن استعمالها وترديدها ويحاكم الآخرين ويحكم عليهم بمقتضاها". ويرفض الأسد سيف الديمقراطية المسلط، "وبما أن تطبيقاتها وأشكالها تختلف بين دولة أوروبية وأخرى، يحق لنا كمسلمين اختيار النموذج الذي يتناسب مع التصور الإسلامي للمشاركة الشعبية التي قد تتفق في طرقها وأساليبها مع الديمقراطية الغربية ولكنها تختلف معها في روحها".



يجيب الأسد من خلال هذه الفكرة المركزية المهمة "ما يتناسب مع رسالتنا ومجتمعاتنا"، عن الكثير من الأفكار المطروحة بين المفكرين والمثقفين حول التعامل مع الفكر الغربي. ويدافع عن فكرته هذه بالعودة إلى الإسلام الذي "أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل.."، ويستشهد بما ذكره علماء الإسلام حول نظام الحكم. فيؤكد أن الإسلام لم يحدد نظاما واحدا للحكم، بل اشترط تحقيق العدل. "فأي طريق استُخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بمقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها".



قد تبدو فكرة عدم الالتزام بالديمقراطية بموازاة الدفاع عن الحكم العادل بالنسبة لبعضهم فكرة سلفية أو أصولية. كما قد تبدو بالمقابل فكرة عدم الالتزام بنظام واحد للحكم مثل الخلافة أو ولاية الفقيه أو سواها فكرة ليبرالية غير إسلامية بالنسبة إلى إسلاميين كثيرين. لكن الأسد في هذا المجال يحتكم إلى منهج دقيق في فهمه للشريعة عندما يقول: "إن الشريعة ترسي الأصول العامة والأركان الأساسية والكليات الصالحة وتترك للعلماء والفقهاء أن يتحركوا في داخل هذا الإطار ليستجيبوا لحاجات المجتمع ومتغيرات العصر، بأحكام تستلهم روح الشريعة".



- قضية المرأة وحقوق الإنسان: ما يعرضه الأسد حول المرأة في المنظور الإسلامي يستمد أهميته والحاجة إليه من تلك العاصفة من الأفكار التي أثارت الكثير من الغبار، ومن عدم الثقة في كثير من المفاهيم التي نحملها عن المرأة وعن دورها وعن موقعها في الأسرة أو في المجتمع. وإذا كان الأسد لم يشر مباشرة إلى تلك المؤتمرات عن المرأة وإلى الدعوات التي رافقتها عن التحرر والانعتاق من سلطة الرجل، إلا أنه تحدث بوضوح في مقدمة بحثه عن المرأة عن المسلمين "المغلوبين" الذين يرددون أفكار الغرب عن دينهم وعن تاريخهم. وينتقد هؤلاء بقسوة لأن "أفكارهم هي صدى لموقف الغرب المعاصر، أو إسقاطات لأحكام هذا الغرب منذ القرون الوسطى وتعصبه على الإسلام". وينطلق الأسد في تفسير هذه النظرة السلبية إلى المرأة من منهجه العلمي نفسه. فيربط بين مسؤولية المسلمين أنفسهم من العرب ومن غير العرب ممن أساءوا حقا في ممارساتهم إلى المرأة فضيقوا عليها الخناق ومنعوها من التعلم ومن المشاركة في الحياة الاجتماعية.. وإذا كانت بعض أفكار الأسد حول المرأة قد تعرضت للنقد من جانب بعض الإسلاميين حول قضية النقاب أو الحجاب فإن ما يمكن قوله في هذا المجال إن ما يتفق عليه علماء المسلمين عموما هي قضية الحجاب وليس النقاب. بمعنى أن النقاب هو اجتهاد خاص لبعض العلماء ولا إجماع عليه. في حين أن الحجاب (بأشكاله المختلفة هو موضع الاتفاق). لكن المسألة المهمة والمنهجية التي يرى من خلالها الأسد إلى قضية المرأة "أن النظرة الإسلامية إلى المرأة تتمثل في نظام كامل يجب أن يؤخذ بمجموعه، ولا يجوز تقطيع أوصاله وتجزئته والحكم على بعض أجزائه منفصلة وحدها". وهذه المنهجية هي قاعدة الخلاف مع الرؤية الغربية والمتأثرين بها لقضية المرأة. لأن هؤلاء ينتقدون هذا الحكم أو ذاك بصرف النظر عن علاقته بتلك الرؤية الشاملة، أو بذلك النظام الكامل الذي يرى من خلاله الإسلام المرأة والأسرة خصوصا والمجتمع عموما.



ومن خلال النظام المتكامل نفسه، ومعه الخصوصية الثقافية، يفسر الأسد من جهة التطورات الفكرية والسياسية التي حصلت في الغرب في العقود الماضية، ورفضه من جهة ثانية الأخذ بما نتج عن تلك التطورات من أفكار ودعوات سواء حول المرأة أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان، لأنها نتاج نظام خاص هو النظام الغربي، ولأنها لا تنسجم مع الخصوصية الثقافية للمجتمعات الأخرى التي يريد بعضهم أن يفرضها عليها، "فالديمقراطية ومعها حقوق الإنسان لم تنشأ فجأة، بل سبقتها مراحل تمهيدية أخذت تكتمل بالتدريج، ولم تنشأ من فراغ، لكنها جاءت نتيجة تطور تاريخي قامت له أسباب وعوامل وانبنت عليه مفاهيم ومبادئ وأصبح لكل ذلك مرجعية وأسس سياسية وثقافية واقتصادية. فكيف نفرض هذه المفاهيم والمبادئ على أمم ودول أخر من عل فرضا قسريا من دون أن تتهيأ مقوماتها وأسبابها، ومن دون أن تقوم العوامل التي توفر البيئة المناسبة لوجودها ودون أن تتطور تطورا ذاتيا داخليا من صميم ثقافة الأمة وتراثها ودينها. والدين من أهم عوامل هذه الأنظمة الثقافية والاجتماعية، ولا يمكن بحث حقوق الإنسان بحثاً علمياً سليماً والحكم على عالميتها أو خصوصيتها من غير فهم لطبيعة الدين في المجتمع ومن غير دراسة مقارنة للأديان ومعرفة طبيعة الائتلاف والاختلاف بين ما تطبقه هذه الحقوق وما تتطلبه تعاليم الدين، أي دين". ولأن الديمقراطية وحقوق الإنسان هي نتاج مراحل وخصوصية غربية، يبرر الأسد نقدها عندما يراد فرضها على مجتمعات أخرى.



وينتقد الأسد مصطلح "الشرعية" في مواجهة الشعوب الضعيفة، عندما يستخدم "حقوق الإنسان"، المصطلح المضلل الذي لا يمكن لأحد الاعتراض عليه. فيسأل: "هل مقاومة معاهدة سايكس بيكو مثلا في المشرق العربي ورفض ما نصت عليه من تجزئة الوطن الواحد إلى دويلات وكيانات يعد خروجاً على (الشرعية الدولية)؟".



وهل حركات التحرر مخالفة "للشرعية الدولية" التي فرضتها نصوص واتفاقيات أجنبية سلبت الإرادة الوطنية والقومية؟.



هل "الشرعية" هي إقرار "الأمر الواقع" ولو كان أصل نشأته غزو خارجي أو هجرة غير مشروعة؟.



هل "الشرعية الدولية" هي اتفاق مجموعة من الدول ذات المصالح المشتركة (دائمة العضوية في مجلس الأمن... أو صاحبة حق النقض)؟.



إن مصطلح "حقوق الإنسان"، وهو مصطلح لا يملك أحد إلا أن يقبله ويدافع عنه، تتخذه أحياناً بعض الدول القوية بذرائع مختلفة مثل "حماية الأقليات" أو "الرعايا الأجانب" ستاراً للتدخل في شؤون الدولة الأضعف، وتغيير رؤسائها أو انظمتها، وتأليب مواطنيها...



ينتقد الأسد في الوقت نفسه التحيز في تطبيق هذه الحقوق (ازدواجية المعايير) عندما يتعلق الأمر بحجاب المسلمات والراهبات في الغرب، ما يعني بالنسبة إلى الأسد على المستوى المنهجي: "أن نتخير مما عند غيرنا ما يتفق مع تعاليم ديننا ومقومات أمتنا، مع الانفتاح والتطور اللذين لا يناقضان خصوصيتنا... لأن على الأمم التي تريد المشاركة في ركب الحضارة والتفاعل مع الخطاب الإنساني العالمي أن تكون هي نفسها بشخصيتها وهويتها وخصوصيتها...".



لا شك أن الأسد يختلف بهذا المنهج مع الكثيرين. مع من يدافعون عن "الشرعية الدولية" كيفما اتفق، لتبرير سياسات دول وحكومات تقبل بالرضوخ للواقع الذي فرضته الدول الكبرى. كما يختلف على مستوى آخر مع من يرى أن الخصوصية لم يعد لها مكان في عالم اليوم، عالم العولمة والانفتاح والاندماج، ومع من يؤيد عالمية الحقوق والمفاهيم بصرف النظر عن مراحل نشأتها وتطورها وعن ثقافة المجتمعات التي احتضنتها. ومع من يرى أن المسلمين ليس بمقدورهم أن يستجيبوا لتحديات العولمة وتطوراتها المتسارعة، كما أن العودة إلى ماضيهم لن تساعد في مواكبة ما يجري حولهم. إن الأسد ينتمي إلى مدرسة أخرى لا تقبل فرض القيم أو المصطلحات مهما قويت شوكتها أو بلغت عالميتها، ويلتزم بالخصوصية من دون أن يهمل الانفتاح والتعلم من تجارب الآخرين.



- الحوار والآخر: تحتل هذه القضية موقعاً مهماً في اهتمامات الأسد الفكرية والبحثية. وهي قضية حظيت بنقاش واسع في الأوساط الدينية والسياسية. فالآخر هو تارة من ينتمي إلى الدين المغاير، وطوراً هو من ينتمي إلى المذهب المختلف. وهو من ينتمي أيضا إلى عرق آخر أو إلى جنسية أخرى. وقد اختلفت الآراء في كيفية التعامل مع هذا الآخر. بين من ذهب إلى تكفيره ومن دعا إلى محاولة فهمه والتعرف عليه من خلال الحوار. ولذا كان هناك دوماً من يؤيد الحوار بين المذاهب ومن لا يتحمس له، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحوار الإسلامي المسيحي.



يرفض الأسد، انسجاماً مع منهجه الفكري منطق التكفير الذي يحتمي به بعضهم لتبرير عدم قبول الآخر المسلم. وهذه مسألة في غاية الأهمية خصوصاً بعدما قويت الدعوات إلى التكفير فتجاوزت الأفكار إلى القتل والاغتيال المتعمد لأفراد وجماعات بذرائع شتى... وإذا كان الغرب (الآخر) بعيداً فإن مخاطر عدم الاعتراف بالمسلم الذي نعيش معه في مجتمع واحد هي التي تهدد الأمة. واستناداً إلى التجربة التاريخية يرى الأسد أن الخلافات بين الطوائف كانت غالباً لأسباب سياسية أو لمصالح بعض الجماعات أو الشخصيات. أما القرآن الكريم فلا يبرر على الإطلاق بالنسبة إليه دعوات التكفير التي تطلقها بعض الجماعات الإسلامية، وترفض بالتالي من خلالها أي حوار مع الجماعات أو الطوائف أو المذاهب الأخرى. "فالإسلام لا يجيز الاعتداء ابتداء"، بل يكون القتال لرد الاعتداء.. "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" (النحل، الآية 126)، و"وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة، الآية 190)، وغير ذلك من الآيات التي تحض على الدفاع ولا تحض على العدوان.. ليتساءل الأسد باستغراب: "كيف يمكن لجماعة أو لفرد أن يقتل آمناً مطمئناً مسالماً لمجرد أنه على دين غير دينه، أو من مذهب غير مذهبه، أو يرى رأياً غير رأيه، فيكفره بسبب ذلك ويستبيح دمه؟".



ينتقل الأسد من نقد الاعتداء الذي لا يقره الإسلام إلى فكرة أخرى لها أهمية كبيرة في النقاش حول الجهاد وحول أولوياته. هل الجهاد هو قتال المذاهب الأخرى أم هو قتال الآمنين المسالمين من أي دين كانوا؟ من المعلوم أن خلافات كثيرة وقعت بين التيارات الإسلامية حول أولوية هذا الجهاد. بين من وجّه بنادقه إلى رؤوس الحكام أو إلى أتباع المذاهب الأخرى من مسلمين ومسيحيين.. فينحاز الأسد إلى من يرى الجهاد "مقاتلة العدو المحارب الغازي، والجهاد يعني هنا الدفاع عن العقيدة وحريتها أمام من يحاول الاعتداء عليها. ويعني تحرير الأرض ودار الإسلام من محتليها وحمايتها منهم. وهذه كلها مما يفرط فيه جميع الغلاة المتشددين، ولا ينهضون بواجباتهم منها، إلا ذلك الفريق المجاهد حقاً الذي ينهض بالمقاومة للعدو المحارب المحتل للأرض. فالمقاومة حق مشروع لمن احتلت أرضهم أو انتهكت حقوق بلادهم، ولا يجوز أن ينسحب عليها لفظ الإرهاب ولا معناه".



يدافع الأسد عن فكرة الحوار نفسها (حوار الحضارات، حوار الأديان، الحوار الإسلامي - المسيحي، حوار الشمال والجنوب، حوار الإسلام والغرب، الحوار العربي - الأوروبي.. )، ويعدّها ملازمة لوجود الشعوب والحضارات منذ القدم. ويرفض فكرة الصراع بين الثقافات وبين الحضارات التي اشتهر بالدعوة إليها هانتنغتون في منتصف التسعينات. وانسجاماً مع منهجه العلمي في "رؤية الأشياء كما هي" لا يهمل الأسد في معرض دفاعه عن فكرة الحوار الإشارة إلى " البلاد الأوروبية" و"البلاد الإسلامية" كعالمين مختلفين كل الاختلاف، يتبادلان المخاوف والاتهامات وعدم الثقة. من الحروب الصليبة إلى الاستعمار الأوروبي، إلى الاستعمار الجديد، إلى التدخل في الشؤون الداخلية لأكثر دول العالم الإسلامي.. أما مخاوف الغرب فأبرزها الهجرة إلى دول أوروبا وما يسمى "الأصولية الاسلامية".



ويستنتج الأسد من هذا الاختلاف ما ينبغي القيام به لدفع الحوار إلى الأمام. لذا لا بد بالنسبة إليه من موقف إيجابي من التفاهم وإقامة علاقات متداخلة تقوم على تبادل المصالح المشتركة. وكذلك لا بد من محاولة تفهم الآخر، وتقبله كما هو، دون أن يعني ذلك تطابق جميع الآراء والاتجاهات أو الموافقة عليها. "فالتواصل شأن التعددية – إنما يعني احتفاظ كل فريق بخصائصه وصفاته، وقبول الآخر على حاله، وإلا انتفى معنى التواصل ومعنى التعددية". لكن الأسد لا يريد الحوار كيفما اتفق أو من دون معرفة من هو الآخر وما الجدوى من الحوار معه وما إذا كانت شروط الحوار متحققة أم لا. فإذا كان من الممكن "التفريق بين العقيدة والمعاملة" وهو الموقف السليم من التعاون مع الآخر، فإن شرط الحوار "ألاّ يكون من أحد طرفيه ظلم أو اعتداء، كاحتلال أرض من يريد إقامة العلاقات معه، وعلى ألا يكون من الفريق الثاني تفريط في عقيدته، ولا تنازل عن حقه إلا بالقدر الذي يأخذ مقابله حقاً"، ليتحقق معنى التواصل والتبادل والتعاون والعلاقات المشتركة.



ويطرح الأسد قضية مهمة في منهجية الحوار، هي معرفة البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يجري فيها هذا الحوار، ومعرفة موازين القوى بين طرفيه. لأن هذه المعرفة هي التي تفيدنا في توجيه الحوار وفي إنجاحه إذا أردنا ذلك. أما الجهل بما يحيط بنا فلا يعني سوى الخضوع لشروط الآخر الذي يعرف تماما ماذا يريد منا وفي أي ظروف يأتي إلينا. "ونحن نريد هذه المعرفة لتكون وسيلة تواصل عن بيّنة وعلى هدى، لا لتكون وسيلة تدابر وتقاطع عن تعصب وجهل. فبغير هذه المعرفة الشاملة الدقيقة لا نستطيع أن نتحاور ونتبادل المنافع ونعقد الصلات مع أقوام يعرفون كل شيء عنا ونكاد لا نعرف عنهم -بل ربما عن أنفسنا أيضا- إلا ما يريدون هم منا أن نعرفه".



***



يجمع الأسد ما يبدو بالنسبة إلى بعضهم المتناقضات. لكنه في الحقيقة هو المنهج الذي يتيح له رؤية شمولية متعددة الأبعاد. فهو يحذر من التطرف ويرفض التكفير، لكنه يشجع الحوار ويحدد شروطه حتى لا يكون مجرد لقاءات أو مضيعة للوقت. وهو لا يريد تقديس الماضي في الوقت الذي يؤكد فيه على الاعتزاز بالثقافة الإسلامية التي قامت بالنسبة إليه على العقل والفهم "لأن المسلمين لم يتأخروا إلا بعد أن تخلوا في حياتهم الفكرية والعملية عن منهجهم العلمي في البحث وتخلوا عن الاجتهاد واستكانوا للتقليد". ولذا يريد الأسد ألاّ نشعر بالنقص تجاه الآخر الغربي، وفي الوقت نفسه تراه يوافق على فتح أبواب الحوار معه ولكن شرط ألا يكون هذا الآخر في موقع الاعتداء أو الاحتلال.



هكذا يبدو ناصر الدين الأسد ملتزما تراثه العربي-الإسلامي. وهو في الوقت نفسه منفتح على الغرب. هذا الالتزام لا يمنعه من الدعوة إلى التجديد ونقد غير العقلاني في ذاك التراث.. وهذا الانفتاح لا يمنعه من رفض التقليد والانصياع للأفكار أو المصطلحات التي تبرر السياسات الاستعمارية أو تتعارض مع هويتنا الثقافية.



6_



العروبة في عينيه



















لينا أبو بكر - لا يصعب على الكاتب أن يتناول موضوعة ما تدور في فلك شاسع يتجاوز حتى حدود ذاته بما يفوق الإدراك العادي في زمن ندر أن يجود بالطاقات الجبارة والأقرب إلى النفحات الأسطورية، ليس لأن في ما تبذله ارتباطا بالخيال، بقدر ما هو تجاوز لإمكانيات عصر بأكمله مما يعدّ انتصارا -ذا فرادة- على واقع مهزوم بكل معطياته وتناقضاته.



أما عدم نيل الصعوبة من الكتابة عن تلك القامة الفكرية والأدبية الشامخة، فإنه لا يحيل إلى السهولة المحضة بمعناها المجرد بقدر ما يستجلي لك عنصر المتعة الآسرة التي تكسر ما تفيض به الصعوبة من رتابة وملل أو حتى شتات بالبحث والقراءة في رحلة لا تبتدئ بزمن بقدر ما ترتبط به لأنها تتخطى حتى الأزمنة، وقد شكلت جسرا رابطا يوشجها معا ويصالح بين أشكالها ورؤاها المختلفة.



هذه المصالحة لا يقل وصفها عن المصالحة المشاكسة التي لا تركن إلى مسلمات، وهي تعينك على محاججة العلم بالعلم،- والمثابرة على دحض العلم بالعلم ما دامت العملية برمتها استفزاز إيجابي للقراءة المتأملة المتفكرة المستوحاة من روح القرآن الكريم، ولهذا تحديدا لن تصل إلى معادلات رياضية معقدة أو رحلة عشوائية فارغ اليدين، سيكون بحوزتك دائما ما يشحن عزيمتك من الإيمان بأن الفكرة تبدأ من وحي من يقتدر على تأملها بكل هذه الفتنة وهذا الخصب المعرفي والروحي والإنصات لملكوت ما لم يَجُد به الإنصات بعد.



لهذا الفارس النبيل العلاّمة د.ناصر الدين الأسد، ما يغري ويفتح شهية اليراع على الكتابة، فيتصبب له ريق الحبر مفعما بالطراوة والنداوة وهو يتذوق معنى أن يلهمه الله نعمة أن يخط حرفا في حق من تعلم قراءة حروفه وربا عليها، فأين تقف معه ومن أين تبدأ؟.



السؤال هنا ليس من منطلق صعوبة أو تردد أو حتى حيرة بقدر ما هو انجذاب متوازن لتنوع الوجبات العلمية والأدبية والفكرية التي تجود بها فردوس هذه الفروسية الفريدة، وهي جاذبية عادلة إذ يقتسمها المجتذبون بكل ذلك القدر من التساؤل المتدبر حول ثراء تلك التجربة وغناها.



إلا أن للعروبة في ملامح المسيرة الفكرية والشعرية للدكتور ناصر الدين الأسد ما ينم عن انتماء للعروبة الإبداع (الشعر) والعروبة الأم (البادية)، وتحديدا إمارة شرقي الأردن قبل تأسيس المملكة، فمنذ العقبة مكاناً للميلاد إلى عمان والشوبك والكرك التي كثيرا ما تنقل فيها وكلها كانت بوادي تقترب بعضها من هيئة القرية دون أن تكونها تماما.



أما القدس التي أوفدته إليها وزارة المعارف آنذاك، فكانت أول مدينة تطأها قدما ذلك الفارس الرحالة، الذي ما ركن إلى مستقر لا في بحوثه العلمية ولا دراساته ولا في أشعاره، ولا في المناصب التي تشرفت بتوليه لها. إن مفهوم الرحلة في كل تلك التجليات يحيل إلى ديناميكة فعالة اكتسبها من الطبيعة البدوية التي يشكل البحث المستمر أحد أهم دوافع الانتقال فيها، وهو ما انعكس على تقصيه الحقائق التاريخية من خلال الترحال بين المصادر والنظريات ودراستها مما يوفر مناخا دقيقا وموثوقا به للدراسة والعلم.



كيف لا تكون تلك البادية إذن فردوسا نضرة للعروبة والأصالة والفروسية على الصعيدين الأدبي والعلمي؟.



ثم كيف لا يتحول الترحال بين الأمكنة إلى نهج تفكيري يعين صاحبه على استنباط المعرفة من موارد أكثر توغلا في التأملات مما يتداول بين الناس وأهل الاختصاص؟.



بل ربما كان علينا أن نتساءل افتتانا أيضا عن الاسم العروبي الذي يحمله الأسد، كأنه يستل مجدا من غمد تاريخ لم تطوه هجانة الأسماء الغريبة لأبناء يعقون الانتماء للذاكرة كلغة، فحتى اسمه يكاد يكون إراديا وقد وفى إليه واستوفى به بسالته في التفكر والتدبر وعراك الأصقاع المعرفية المتباينة عراكا يليق بمن يحملون السيف لا من يصنعونه!.



كيف لا يتمسك الأسد إذن بالعروبة عروةً وثقى يستحكم بها على طرفي المعادلة الزمنية والإبداعية بين التراث والحداثة؟.



إنه لا يتعامل مع طرفي الحبل بعقدة صلبة سهلة الكسر، إنما يتعامل معهما بعقدة قابضة، وهو ما يشي بالحكمة كمبدأ ومنهج عمل لا تعصّبا أعمى أو عنجهية نقدية لا ترى سوى بعين واحدة.



من عرف هذا الفارس من قرب، من خبر فروسيته بالتعاطي مع الأجيال والأزمنة والآراء والاختلاف، سيهتدي إلى أن الشهامة لا تقتصر على التفاعلات الاجتماعية بين البشر فقط على اعتبارها من مشتقات الفروسية كبطولة، بل حتما سيغدو قلب المتلذذ بتتبع الرحلة –دليله على بذارها الأولى: البداوة بل قل البداوات.. لأن البداوة بالإضافة إلى كونها فطرة فإنها أيضا تجربة وخبرة، تدخر لكل بدوي شاعر جولات مشرفة لخوض غمار الرحلة الخلاقة.



ولكن ماذا عن ابن الثماني سنوات ذاك الذي امتطى جوادا للعائلة في أحد السباقات ليقع عنه وقد احتفظ منه بألم في ظهره؟.



إن الخيول تشيخ، وقد تهرم ذاكرة الألم أيضا، غير أن من يتبقى هو الفارس البدوي الذي نجا بالفروسية إذ استلهمها في كل شؤونه، وهي ليست في مكمن اللاوعي كي لا نلغي أمانة الإرادة في صيرورة البحث والإدراك لمنابع الفطرة، إنما هي استيراتيجية مكتسبة من بيئة تُحوّل التأثر إلى تأثير وتشتغل على لاوعيها كي ترده إلى أصله فتستوفيه حقه ولا تبخسه إياه، وهنا مجذب الروعة، فالترحال في الذات بداوة معتقة تروض المرء على اكتشاف منبتها من جديد، وفي هذا الترويض إعادة ترتيب للعوالم الممتدة عبر الذات من سياقاتها الخارجية.



* العروبة البداوة



ولأن العروبة البداوة في المنظومة الشعرية تحفل بما يأسر اللب من اقتراحات جمالية على مستوى الحس الإيقاعي والنسق التعبيري، فإنه لا بد من التعريج بالشعر على اعتباره بداوة فصحى تمازج بين الجوهر والمبنى ممازجة لا تخلو مما يحيل إلى المفارقة.



لعل أهم ملامح تلك العروبة هي الاستناد إلى اللسان العربي المبين، لسان القرآن الكريم في مستهل كتاب شعري قائم على بوح هامس لشاعر يتبعه الغواة، مما يحرره من ذنب الغواية ليس فقط لأن الاستثناء القرآني جاء لصالح الذين آمنوا من معشر الشعر، إنما لأن الغواية ارتبطت بالتابع لا المتبِع، وبهذا يكون التابع هو من قام بفعل الغواية لا من وقعت عليه الغواية بفعل فاعل!.



لما تكون اللغة ليست صنعة ولا تكلفا، إنما هي انتماء فطري، لا تعجب حينها إن عثرت على بيت أسدي يحتفظ بلغة الشعر الديوان –ديوان العرب– وعلى مفهوم الإيحاء المرتبط بجنية هي إلهة تقوم على وحي ما يوحى..



"وحبته إلهة الشعر منها نفحات من القريض توائه".



فالقريض وتوائهه جماليات لغوية وإيقاعية فائقة الروعة ذات إحساس غاية في الرهافة وتعبير في قمة البلاغة، لأن نفحات ما يقرضه هبة تائهة من الجنية إلى من توحي إليه، وفي هذا دلالة فاتنة على أن ما تتخيره لتوحي به ما هو إلا ما يتوه منها، مما يؤكد على إرادة التيه، فهل أجمل من ذلك السبك اللغوي السلس والعميق؟



للشاعر نظرته إلى قيمة اللغة التي يعكسها شعره، ليس فقط في المبنى والتعبير والصياغة، بل أيضا في الإيمان بها، حتى وإن خذلته في الوصول إلى ذات حبيبة من السحر والفتنة ما يعجز اللغة عن إدراكه، إلا بالهمس، لكنك إن استدركت تأملك لتلك الحالة ستصل إلى نتيجة مفادها أن الهمس عربي مبين لم يتخلَّ عن لغته أبدا..



ولأنك تقف بشيخ اللغة العلامة الأسدي ناصر الدين الأسد، في شعر حيدر محمود في تكريم شيخنا، فإنك تعثر على ارتباط الحضور باللغة ليس بصفة الظل بل الرديف الأيمن:



"لكن تكريم شيخ الضاد أكبر من بوح الدلال بأسرار الفناجين



وكان نخلة فصحانا التي نبتت في ظلها كل أزهار البساتين".



ومن موقع الحريص على لغته التي هي وجوده يرد د.ناصر الدين الأسد على محمود:



"ذكرت لي لغة الله كرمها قد باعها أهلها من غير ما ثمن



هانت عليهم وهانوا في نفوسهم وطالما أغنت الدنيا ولم تهن



واستبدلوا بفصيح القول ألسنة عجماء أو لهجة بكماء لم تبن.



إن اللغات هي الأوطان ما بقيت شعب بلا لغة شعب بلا وطن".



ستعبّر اللغة هنا عن مدى الألم الذي ينتابها لغدر أبنائها بها، فمتى يغدر الإنسان بوجوده هل يستحقه؟.



أجمل ما يمكن أن يخطر ببال الإبداع هو ارتباط اللغة بالألفة أو الغربة مع الأمكنة بشكل يدلك على دلالة المنفى ومعناه، فبعد نكسة حزيران توجه الشاعر إلى إسبانيا وصادف أن كان هنالك مهرجان اجتمعت فيه ألسنة عدة، لم يكن بينها اللسان العربي، لك أن تتخيل إذن أن الغربة ليست على صعيد المكان –لأن هذا وحده لا يكفي– بل على صعيد اللسان: "أفما يحق لي التفجع والأسى / بلدي هنا وأنا غريب الدار".



هنا وهنا فقط، تشكل اللغة درعا واقيا من الفراغ الوجودي الذي أحسه الشاعر، مما يعزز لديه انتماءه إليها، بخاصة في ظل تهاوي المساحات الجغرافية بعد هزيمة 1967، وربما كان هنالك رهان أخير على اللغة كوطن! فهل أصاب الرهان؟!.



* العروبة الطبيعة



وإذا ما عدنا إلى الثالوث المؤثر على نبرة الأسى والحزن في الشعر العربي كما حللها د.حسن البكور ود.عيسى العبادي في جامعة معان، فإننا نعثر على أحد أهم عناصر ذلك الثالوث حاضرا بقوة، ألا وهو الطبيعة التي هي الصحراء، طريق الضلال والتشرد، وتلك سمات بداوة يسقطها الأسد على الحالات الشعرية مهما تعددت مضامينها ومواضيعها:



"أيها الشاعر المشرد رفقا".. لنلاحظ عمق الإحساس بجذوره، وإحالة الحالة الإبداعية إلى طقس صحراوي حافل بمشهدية الضلال في تلك الصحراء، وإن أردت إشارة فما عليك سوى استعادة ربط الضلال بالصحراء عبر استنكار الشاعر إذ يقول:



"فعلام الإطراق يا شاعر الحسن وفيم الضلال في صحرائه".



وهي الصحراء نفسها التي تنبت الرجال الرجال في قصيدة يحاكي بها أمير الشعراء في نكبة دمشق.



لا يكتفي الشاعر باستنهاض همة اللغة قبل ذبولها في عصر معولم، إنما يثري هذا الاستنهاض بروح ذات قيمة جمالية ومضمون أخّاذ لا ينفصل به عن عصره، بل ينتمي إليه دون أن يخل بأساس الانتماء إلى اللغة، ثم إن الارتكاز على التاريخ العربي في محاكاة درر الشعر ما هو إلا استنهاض همة أخرى لذاكرة أجمل ما فيها أنها مطواعة وقادرة على أن تلبي، فأي شاعر ما هو بساحر ولا مسحور، لكنه يضبط الفتنة على إيقاعي المفتتن به والمفتون فيظفر بافتتان مرتد.



* العروبة الهوى



في قصائد الهوى في ديوان "بوح وهمس" يعصرن الشاعر ساحة الوغى على الطريقة العربية التي تستوعب ثنائية الحرب والحب منذ عهد عنترة. في قصيدة "يا طير" يوقظ أكثر من تاريخ شعري منذ حمامة أبي فراس إلى طير الحب الأسدي، فيحشد كل ما أتيح له من انفعالات وأخيلة ومواد خام استلهمها من واقع معاصر وأسقط عليها واقعا مستعارا من تاريخ شعري لا تنفد هباته اللغوية والإبداعية..



لكن ما يلفت حقا هو ذلك التفاعل مع الشخصيات الشعرية التي خلدها الشعراء في قصائدهم كولادة بن زيدون على سبيل المثال، بخاصة في قصيدتيه "أندلسية زيدونية" و"ولادة"، فمجرد أن تقرأ هذا البيت تحس بالقيمة الجمالية لذلك التفاعل: "يا ليل طل / لو بات عندي قمري ما بت أرعى قمرك".



بطبيعة الحال، فإن القيمة الجمالية لاستحضار تلك الحكاية الأندلسية تلغي تقمص شخصية ابن زيدون الإبداعية، لكنها تحيلك كضرورة على منطق آخر يحتفظ لكل إبداع بخصوصيته، لكنه يمازج بشكل رهيب بين التأثر الأثر، فولادة لولا بن زيدون لم تكن ربما لتكون، وفي استحضارها شعريا ما يخرج بالشعر عن منطق المناظرة الانفعالية والشعرية ليدخل به إلى عالم التوحد بالعشق كحالة إبداعية وإنسانية تامة تبدأ من الحكاية الشعرية وتنتهي بحكايات تتفق عنها ولا تستنسخها، بل إن رفقة الشاعر للموروث العربي الشعري كانت سببا في ضمه إلى صلبه من خلال إحيائه بمحاكاته، ومعايشته حتى لكأنه يعيشه مرتين إذ يقرؤه وينظمه من جديد، وإلا كيف يفسَّر الوصف الحسي لجمال ولادة ثم محورة ارتباطه بها من حكاية إبداعية إلى حالة واقعية تامة: "كمل الجمال فكنت إياه / أعطاك صورته وسفحواه".



كأنها ماثلة أمامه بجسدها لا بظلها، بل لكأنه ابتنى معها ذاكرة أعانته على نسج أواصر العهد بينهما على حفظ الهوى في أيام لاحقة، فانتقل بالحكاية من الزمن الإبداعي الواقعي وهو "التاريخ الماضي" إلى الزمن الافتراضي أو المتخيل والمستعار وهو المستقبل: "سأظل أعشقها وأذكرها عهدا على قلبي سأرعاه / أترى تكون كما أكون لها أم تجتوي حبي وتنساه؟". فأي اقتحام مشروع للحكاية يحق به للشاعر ما لا يحق لغيره من ادخار شخصيات لأزمنة إبداعية أخرى لا كموروث بل كأمانة جمالية قابلة للعصرنة من منظور أسدي.



وهنا، لا بد من الوقوف عند بداوة الهوى، ويحلو تصور الهوى بدويا على طريقة أجداد الأسد منذ امرئ القيس إلى عنترة، وحتى قصيدة "امرأة": "هي نخلة غراس بادية فيها نمت وربت / قد أرضعتها السنى قحطان أو مضر". إنه بيت يدل على الفخر بعروبة الهوى، على التعلق بالبداوة التي غراسها امرأة بقامة نخلة، وللقارئ أن يأخذ في حسبانه كل ما تحمله الإحالة على النخلة ككناية عن الشموخ والعزة والعروبة والعطاء، لا بل إنه لن يتفاجأ بحضور المقدمة الطللية التي يقف بها الشاعر على أطلال المحبوبة ويحولها إلى رحلة طللية ضمنا وتصريحا: "أنت الحبيبية في حلي ومرتحلي".



* الترحال والبداوة الشعرية



"يا ساكني السفح من عمان إن لنا في حيكم رشأً يفدى بعمانا



قد جاءني أنه يبكي على سفري يا حبذا الدمع من عينيه هتانا



وأنه يسأل الركبان عن خبري ويستزيد من الأخبار لهفانا.



هذه الأبيات تكاد تختصر ما يترتب على الرحيل في حياة البدوي العاشق من لواعج اتجاه المحبوبة التي يتركها وراءه، ومن هموم ومشاق نفسية، مستعينا بصيغة التخاطب الشعرية في السفر مع رفيقي درب لييوح لهما بما أتيح من قلق وشجى، مما يثبت أن في استعارة هذا الطقس البدوي ما يشبع لدى ناصر الدين الأسد حنينا إلى جذور ضاربة في التنقل والترحال وما يحمله من ولهٍ وعذابات، بحيث يبقى في زمنه مع القبض على جمرة الزمن التاريخ أو الزمن الجذر إن جاز التعبير.



وكله لا ينفصل عن واقع الرحلة الطللية في المقدمة الشعرية التي لا تحضر هنا كتقليد يعبّر عن رغبة بقدر ما تفرض نفسها حاجةً وضرورة لأنها تفضي إلى ذات الإشباع أو التعلق بالبداوة الأصل: "وتنقلت بين أطلال روحي ورسوم من الصبا الغض درس".



وفي قصيدة "حنين وثورة" يصبح الماضي والذكريات طلله الشعري:



"نقلت عيشي إلى الماضي ولذته يا ليت ماضيّ فيها كان أزمانا



أجترها كلما ضج الظما بدمي أو عادني لاعج الأشواق غرثانا



فصرت جزءا من الماضي أعيش به ولا أطيق له بعدا وسلوانا".



الترحال المرتبط بالبداوة لم يزل يمد الشاعر بما أوتي من غربة تظل حاضرة حتى في وداعه إلى الجامعة الأردنية بعد تقديم استقالته من إدارتها، وقد وصف نفسه بالغريب: "أحقا أنا في غد راحل / ويمضي الغريب وحيد الخطى / يجوب البلاد / أفارق ربعك".



ويعرج المرء على غنائيته "واحتي" ليمر بألف صحراء وصحراء هي الطريق إلى القصيدة الواحة، فالصورة المستلهمة من الصحراء يغذيها ما يختزنه الشاعر من انتماء لذاكرة موروثة، لذا فإنه يؤكد أن الغربة هي الطريق ما دامت الخررطة صحراوية: "قد طال في الصحراء سيري واغترابي..".



وحتى في مديح الأمكنة أو الأقوام يعثر المرء على جزئية السفر بما لا ينفصل عن ملكوت البداوة التي تسكن الشاعر وتستقر في عوالمه كرحلة لا تنتهي..



وفي قصيدته "إلى أهل مغربنا" ثمة وفاء فريد إلى بداوته على مستوى الإحساس والرؤية والتعبير:



"حاد من الشوق هاج النفس والفكرا / يردد الصوت حتى يطرب السفرا / يبث في البيد من أنغامه عطرا".



لنلاحظ ارتباط البيد بالمعنى العام، ثم: "يا حادي الشوق قد بلغت فاتئدن / حداؤك العذب لم يترك لنا صبرا". نعثر هنا على صيغة الخطاب الشعري لحادي الشوق –خلال الرحلة.. تلك الصيغة التي تشحن المبنى التعبيري بديناميكية متحركة تنتقل إلى المتقلي بسرعة شرارة كهربائية، وهو توظيف عاطفي لا يقف وراءه ذكاء في الاستعارة، بل هو عود على بدء يتحول بالترحال إلى نقطة عودة ليس كذاكرة أو هوية أصل "جذر"، بل كأمنية مما يقلب التصور رأسا على عقب، إذ يصبح واقعه هو ذاته حلمه: "أحلى مناهُ حياة لا قيود لها / وأن يجوب بأرض الله آفاقا / وأن يكون له في كل مرتحل / حب مقيم يراه كلما اشتاقا"



*العروبة الأمل



كان يحلو لي أن أظن بأن الله لم يخلق كالمتنبي شاعرا عروبيا بقادر على التعصب دون العماء، أو ما تمكن تسميته الفخر ثم النقد دون التخلي عن العروبة كمعادلة تحتمل كل المفارقات، وكنت أضمر إحساسا ما بأن علاّمة تشغله عروبته في بحثه وفكره ومعتقده وشعره وأسلوب حياته هو ناصر الدين الأسد لا بد يجود علينا بما يمكن للعروبة أن تكون بأمسّ الحاجة إليه في عصر مغترب، ألا وهو الشعر، على اعتباره عنصرَ يقظة يقبض على طرفي المفارقة بيد هي القلم. فمن قصيدة "نفثة مكروب" في حرب إيران والعراق يقول الشاعر في ما يدل على:



- النقد: "وأصبحنا قبائل من جديد نقسم في العشي وفي الغداة / وقد كثرت عبادات لدينا فمن عزى نقدسها ولات".



- الفخر: "يريني أمتي اتحدت وعادت إلى عز العصور الزاهيات".



وهو إذ آتيك بهذا وأزيد يستهل قصيدته بمقدمه طللية، تستذكر بها تحليل د.نصرت عبد الرحمن رحمه الله للمقدمة الطللية على أنها تعبدية في سبيل طلب الكلأ والماء من الآلهة، وقد أبدع الشاعر إذ استهل بها صلاته لعروبته..



وإن تقرأ له تحية الشعر لأهلنا في المغرب، تلتقط نفحات الفخر بحضارة عربية امتدت إلى أقاصي الدنيا قبل أن تنحصر..



- الفخر: "من هنا امتد للفتوحات أفق عبقري السَّنا عفيف المغانم / فيك أهلي وموروث قومي..".



وهو حتى في شعر الرثاء، رثاء الأصدقاء (مثل سليمان الحديدي) لا يتوانى عن جعل العروبة القيمة الأساسية في العلاقات الشخصية وفي الخيارات البطولية، كتخير الموت سبيلا للخلاص من واقع معيب:



- الفخر: "قد عهدناك للعروبة طوبا شامخ الركن راسخ الأطناب".



- النقد: "ما الذي عفته وساءك منا فغذذت الخطى لقفر يباب / أترى ضقت بالذي قد هانا من هوان وفرقة واحتراب / لم تطق ذلنا وما نحن فيه واقتتال الإخوان والأحباب".







7_



_تحقيقاته اللغوية











د.تهاني شاكر



للدّكتور ناصر الدين الأسد شغف خاص باللغة العربيّة لا يخفى على أحد، وبخاصّة نحن طلبتبه الذين عرفناه من قرب، فانبهر معظمنا بأسلوبه المشرق في التّعبير، وبلغته الفصيحة التي تنساب على لسانه سلسة دون تكلّف أو تعقيد، فهو يستخدم اللغة الفصيحة في تأليفه وتدريسه وحياته اليوميّة دون أن يلجأ إلى كلمة واحدة غريبة أو مهجورة، خلافاً لكثير من الأشخاص الذين حاولوا التحدّث باللغة الفصيحة في جميع ميادين حياتهم فاستخدموا كلّ غريب ومهجور بطريقة تدعو إلى السّخرية أحياناً.



ولعلّ ما ساعده على الحفاظ على هذه اللغة المشرقة القريبة من النّفوس، قربه من القرآن الكريم، فهو يكثر في حديثه من الشّواهد القرآنيّة حتى يظن المرء أنّه يحفظ القرآن كاملاً، وقد سألته عن ذلك فقال لي إنّه يحفظ أجزاءً منه، ويحرص على تلاوة شيئاً منه كلّ يوم.



وشغفُ الأسد باللغة العربية هو دافعه الأول لكتابة البحوث التي اشتمل عليها كتابه: "تحقيقات لغويّة"، فهذا الكتاب يشتمل على تسع دراسات كانت قد نُشِرت في مجلتي: مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة، ومجمع اللغة العربيّة الأردنيّ، ثمّ جمعها الباحث في هذا الكتاب وأعاد نشرها حين ألحّ عليه بعض طلبته عمل ذلك بعد أن اطّلعوا على هذه الدّراسات وعرفوا ما فيها من فائدة ومعرفة ليس من السّهل الحصول عليها.



والدّراسات الموجودة في هذا الكتاب هي: معاجم ومعجمات، ونوادٍ وأندية، ووديان وأودية، وحماس وحماسة، وأعراب وبادية، والعشرينات والعشرينيات، وجهود بعض المحدّثين في العاميّ والفصيح، وكتاب الجمهرة لابن دريد وأثره في اللّغة، ومسائل في العربيّة وتعلّمها.



* معاجم ومعجمات



لاحظ د.ناصر الدين الأسد كثرة استخدام الكتّاب لكلمة "معجمات" جمعاً لمعجم، ووجد أنَّ بعض الدّارسين يخطِّئ استخدام كلمة "معاجم" جمعاً لمعجم ممّا دفعه إلى تتبّع هذه الكلمة في المصادر القديمة لمعرفة الصواب من الخطأ في جمعها، وهو في منهجه في البحث يميل إلى التيسير والاستفادة من سعة اللغة العربية ورحابتها، فهو يقول عمّن يسرعون إلى وصف الكلام بالخطأ دون تمحيص وتدقيق: "ولا شكّ في أنَّ هؤلاء العلماء الأجلاّء أسدوا إلى لغتنا فضلاً كبيراً بما تتبّعوه من وجوه الخطأ والصّواب، ولكن بعضهم أدخل نفسه وأدخلنا معه مداخل حرجة، وضيّق على نفسه وعلينا، وركب مركباً صعباً وأراد أن يحملنا عليه، ثمّ اعتسف الطريق، وقد وقع هؤلاء العلماء في بعض ما خطّأوه وجرت أقلامهم ببعض ما نهوا عن استعماله. والأمر أوضح من كلّ ذلك، وسبيلنا أرحب، ولغتنا أوسع وأسمح. ولا ريب في أنَّ كثيراً مما خطّأه هؤلاء العلماء هو صواب صواب، حتّى لقد بتنا محتاجين إلى أن نردّهم هم إلى الصّواب لننفي من نفوسنا ما أصابونا به من تحرّج حين نكتب، بل من فزع، خشية الوقوع في الخطأ مهما نبذل من جهد في التّدقيق والتّثبّت" (ص 14).



وقد خلص الباحث من دراسته لكلمة "معجم" إلى أنَّ الصّواب في جمعها هو "معاجم"، وأنّ "معجمات" يخالف القياس، واستعمال العرب، وذوق جمهور المعاصرين معاً، وإن لم يكن خطأً محضاً إذ لُحِظَ فيه معنى القلّة كالشّأن في جمع المؤنّث السَّالم.



* نوادٍ وأندية



كما تحقّق الباحث من جمع كلمة "معجم" وخلص إلى أنَّ الصّواب فيها "معاجم"، تحقّق كذلك من جمع كلمة "نادٍ" وتوصّل إلى أنَّ "النّوادي" وحدها هي جمع "النّادي"، وليس "أندية" التي هي في الأصل جمع "نّديّ"، وأنّ النّوادي يقتضيها القياس المطّرد، وهي موافقة لاستعمال العرب ولطبيعة لغتهم، وذلك لأنَّ صيغة "فاعل" حين يخرج عن الوصف ويجري مجرى الاسم، ويدلّ على غير العاقل، فجمعه القياسيّ المطّرد الذي لا ينكسر هو "فواعل"، ولأنَّ المعتلّ الآخر بالياء -المنقوص- إذا كان على وزن "فاعل" ودلّ على اسم لغير العاقل، فيجمع جمع نظائره من غير المنقوص: فالبازي جمعها: البوازي، والصّاري جمعها الصّواري.



* وديان وأودية



وجد الباحث أنَّ بعض المحدثين يذهب إلى تخطئة استعمال "الوديان" جمعاً للوادي، ويستعملون كلمة "الأودية" عوضاً عنها، ممّا دفعه إلى دراسة هذه الكلمة وتتبّع جمعها في المعاجم وكتب اللغة حتى خلص إلى أنَّ كلمة "وُِديان" هي المستعملة جمعاً لوادٍ في كلام العرب وأحاديثهم اليوميّة في العصور الأخيرة، وأنَّ هذا الجمع "فعلان" من أبنية الجموع العربيّة التي نصّت عليها معاجمهم، وكتب لغتهم لذلك فهو لم يجد حرجاً من استعمال "وديان" جمعاً لـ"وادٍ" إلى جانب "أودية" فتكون "أودية" جمع قلّة و"وديان" جمع كثرة، وذلك قياساً على وزن "فعيل" الذي يجمع جمع قلّة على "أفعلة" وجمع كثرة على "فعلان".



* حماس وحماسة



حديث الأسد في هذه الدّراسة مشابه لحديثه في الدّراسات الثّلاثة السّابقة، داخل في بابها فهو مثلها محصور في صيغ الألفاظ وأبنيتها: تلك الدّراسات في الجموع، وهذه الدّراسة في المصادر، ومدارها جميعها على إلحاق ألفاظ بمثيلاتها بشروط معلومة وفي أحوال مخصوصة، وهو قد اختار لدراسته كلمة "حماس" التي ذهب إلى تخطئتها إبراهيم اليازجي، والشّيخ المنذر، وأسعد خليل داغر وغيرهم، وخلص من دراسته إلى أنَّ من يستعمل لفظ "حماس" في كلامه أو كتابته هو في مأمن من التخطئة لأنَّ كثرة تعاقب "فَعَال" و"فعَالة" وتواترهما في المصادر عند القدماء يجعلنا نحجم عن تخطئة من يستعمل صيغة "فعال" ولو لم تذكرها المعاجم وكتب اللغة واقتصرت على إيراد فعالة، وذلك بشرط أن تكون الكلمة قد كثر دورانها على اللسان وفي الكتابة عند أبناء اللغة العربيّة.



* أعراب وبادية



تسعى هذه الدّراسة إلى إزالة التّداخل والاضطراب في لفظين هما: أعرابيّ وبدويّ، فالمعاجم وكتب اللغة والتفسير وغريب الحديث تورد تعريفات لهذين اللفظين تجعلهما يدلان على معنى واحد، وهذا ما لا يراه الباحث الذي استقصى دلالة كلّ من الكلمتين في كتب تفسير القرآن الكريم، وفي الأحاديث النبويّة الشريفة، وفي كثير من النّصوص في المصادر القديمة، وخلص إلى أنَّ البدو هم الذين يعيشون خارج المدن والقرى ويظلّون قريبين منها محيطين بها، وهؤلاء متّصلون بحاضرتهم يدخلون ويخرجون ويتبادلون وإيّاهم المنافع ويشتركون معهم في كثير من العادات والطباع. أمّا الأعراب فهم الذين توغّلوا في الصحراء، ولم يتّصلوا بأسباب الحضارة، فأصبحت قلوبهم قاسية، وطباعهم جافية.



* العشرينات والعشرينيات



يحاور الباحث في هذه الدّراسة الذين يخطّئون استعمال كلمة "العشرينات" وغيرها من ألفاظ العقود، ويرون الصّواب في قولهم: "العشرينيّات" ويخلص من حواره معهم ومناقشته لآرائهم بقوله: "فمن أراد طريقة العرب وما ساروا عليه في كلامهم، فأمامه هذا الشّعر المبين، وليقل: حدث ذلك في العشرين أو الثلاثين أو الأربعين من هذه المئة، أو من هذا القرن...، ومن أراد المخالفة عن استعمالهم الذي ألفوه، وأراد أن يحدث كلاماً جديداً، فلا بأس عليه أن يجمع لفظ العقد فيقول: العشرينات والثلاثينات" (ص 112).



* جهود بعض المحدثين في العاميّ والفصيح



يعرض الباحث في هذه الدّراسة لجهود أربعة من الدّارسين من دول عربيّة مختلفة، في دراسة ألفاظ شاعت في الاستخدام العاميّ وردّها إلى أصولها الفصيحة، وأول هؤلاء الأربعة هو: أحمد رضا العامليّ من لبنان، والثّاني هو د.أحمد عيسى من مصر، والثّالث هو شفيق جبري من سوريا، والرّابع هو د.عبد الملك مرتاض من الجزائر.



* كتاب "الجمهرة" لابن دريد وأثره في اللغة



تبيّن هذه الدّراسة أنَّ كتاب "جمهرة اللغة" لابن دريد نال حظّاً وافراً من الشّهرة عند القدماء، واعتمد عليه أصحاب المعاجم وعلماء اللغة الذين عاصروا ابن دريد أو جاؤوا بعده حتّى عصر السيوطي في القرن العاشر الهجريّ، وهو كتاب ذو قيمة كبيرة وأثر بالغ، ولذلك أصبح واحداً من خمسة كتب مشتهرة عالية كما وصفه ابن فاس.



* مسائل في العربيّة وتعلّمها



هذه دراسة يدعو فيها الأسد إلى دراسة أساليب تعليم اللغة العربيّة: نحوها وأدبها، من داخل هذه اللغة وثقافتها، ودراسة ما عند غيرنا، لا لنخضع له ونقتصر عليه، ولكن لنعرفه ونقابله بما عندنا، ونأخذ منه القدر الذي يفيدنا ونحتاج إليه لتطوير أساليبنا ووسائلنا التعليميّة بما يناسب طبيعة لغتنا ومقوّمات ثقافتنا.



يمكن القول إنَّ هذه الدراسات مجتمعة تظهر منهج ناصر الدّين الأسد الذي يتسم بالدّقّة والاعتدال. والأسد هو أستاذي الذي سمعت منه عشرات المحاضرات والنّدوات، وفي كلّ مرّة كنت أجد عنده شيئاً جديداً أتعلّمه، فهو أستاذي الذي أشعر في حضرته أنني ما أزال في بداية طريقي العلميّ حتى بعد أن نلت الدّكتوراه.



8_



الزمن.. تماهي الذاتي والجمعي في شعره



















د.خالد عبد الرؤوف الجبر - كما تشتقّ الذّات الشّاعرةُ فُسحَتها اللغويّة اشتقاقاً خاصّاً بها من تيّار اللغة بصورة عامّة: قديمِه وحديثه، فتصبح مميّزة بلغتِها الخاصّة، فإنّها كذلكَ تشتقُّ فُسحَتَيها اللتين تجسّدان وجودَها في الواقعِ المعيش، أو الواقعِ المتخيَّل، أو الفضاءِ الوجوديّ الممتدّ خارجاً عن الخَيال كما عن الواقع. وهاتان الفسحتَانِ هما: فُسحتُها الزّمانيّة، وفُسحتُها المكانيّة.



قد تتميّز الذّات الشّاعرةُ في إحساسها الخاصّ بالزّمان، وفي تشكيلِها له، ورؤيتها التي تطبعُه بطابعها. ويمكنُ أن يتقاطَع زمنُ الذّات الشّاعرة بالزّمن الموضوعيّ الجمعيّ، أو يتفاصلَ معهُ كلّيّا، لكنّنا في النّادر نقفُ عندَ ذواتٍ شاعرةٍ يتماهى زمنُها الخاصّ الذّاتيّ بالزّمن الجمعيّ الموضوعيّ؛ أي حينَ يصبحُ زمنُ الذّات هو زمنَ الأمّة، أو العكس. هكذا يصبحُ صِبا الذّات الشّاعرة صِبا الأمّة، وشبابُها شبابَها، وهرمُها هَرَمَها؛ تنحُو الذّاتُ هنا إلى تأصيلِ نفسِها في الجسدِ الجمعيّ بلا تماهٍ كلِّيّ وإلاّ فقدت تمايُزَها، وبلا انفصالٍ كلّيّ وإلاّ فقدت امتدادَها. ولعلّ الصّراعَ الذي تعيشُه الذّاتُ هنا ليسَ أقلّ إيلاماً من أيّ صراعٍ آخر. وركائزُ قصائد الأسد المنشورة في مجموعتِه "همس وبَوح" هي:



- زمن ناصرِ الدين الذّاتي في حياته الخاصة, الذي فقدَ أباه وأمَّه يافعا, وفقد معهُما العزَّ والرَّخاء والبَحْبُوحة والقُرْبَ من المركز والسُّلطان، واضطرَّ للعمل من أجْلِ أن يعيشَ وإخوتَه, ثم ليعمل من أجلِ أن يدرُسَ على نفقَتِه. وهذا ما نجدُه في كثير من أنحاء المجموعة، وهي مسألةٌ طبيعيّة لأنّ الذّاتَ قبل أن تعي التّماهي بينَها وبينَ الجمعيّ الموضوعيّ تبدأ بوعي خصوصيَّتِها، ثمّ تنطلقُ لوعي الخصوصيّات الأخرى التي يمكنُ أن يقومَ بينها وبين خصوصيّة الذّاتِ تعالقٌ متين، وتماهٍ فاجِع أو رائع. نجدُ هذا مثلاً في قوله من قصيدتِه "يا طير":



"بالأمسِ مرهوبُ القـُوَى



واليومَ مقصُوصُ الجَناحْ



أُبْدِلتَ من سِحـرِ الغِنــا



ءِ، ورَوْعِهِ مــُرَّ النُّــواحْ



أُفْرِدْتَ فـي دُنْيــاكَ إفْـ



ـرادَ الأثيمِ أخِي الجُناحْ".



ولا ينفكُّ هذا المعنى متّصلاً في شعر ناصر الدّين، وهو يقلّبهُ بصور شتّى، لكنّه يظلّ متمتّعا بالبنيةِ نفسِها بين مقطع وآخر. الاشتياقُ والحنينُ إلى ماضٍ ولّى وأخذ معهُ سعادةً ليسَ لها أن تعودَ، حتّى تغدُو الرّوحُ أطلالاً، والصِّبا رُسوماً عفّى عليها الزّمانُ. إنّ تناصّ الأسدِ هنا مع سينيّتي شوقي والبحتري له مسوّغاتٌ كثيرة، ليس آخرَها إحساسُه بما ضاعَ من العُمر والأمنِ والرّخاء في ظلّ أبيه وأمّه:



"في الظّلامِ العميقِ ذوَّبتُ حسّـِي



وتهافتُّ فوقَ أشــلاءِ نفسِـــي



أستعيدُ الماضيَ القريبَ وآســَى



لِهَوىً لا يفيــدُ فيــهِ التّأسِّــي



وإذا مــا أردتُ طِبــّاً لرُوحِــي



من أساها، وصلتُ يومي بأمسي



وتنقَّلـتُ بين أطــلال روحــي



ورُسومٍ من الصِّبا الغضِّ دُرْسِ".



إنّ الذي يحسُّ تعالُقاً حميماً مع الماضي ليس في قدرتِه الانسجامُ مع الحاضر، فالحاضرُ عبءٌ ترزحُ الذّاتُ الشاعرةُ تحتَ وطأتِه، ولا يمكنُ تمثُّل ذلكَ إلاّ حينَ تلجأ الذّاتُ إلى المقارنةِ بينَ ما كانَ لها وما كانت عليه، وما تفتَقِدُه في حاضر ليس لها وما هي عليه. يضحي الهروب إلى الماضي هروباً إلى الذّاتِ في أشدّ لحظاتِ عُمرها صفاءَ حياة، وربيعَ عُمر، ولذَّةَ عيش. و يصبحُ القادمُ، هكذا أيضا، لا سبيلَ إلى قياسِه على الماضي، إنّما يُقاسُ على الحاضرِ الرّاهن المؤلم. ومن هنا، تبدأ الذّاتُ اغترابَها عن حاضرها ومستقبلِها؛ لأنّها تعيشُ هناكَ في ماضيها وتودّ لو تستطيعُ استرجاعَه. لكنّها أمامَ حتميّة فناء الماضي وانقضاء عهدِه تعيشُ ألماً مضاعَفاً، فلا هي قادرةٌ على العيشِ الحقيقيّ في الماضي، ولا في مقدورِها أن تتحقّق بالفعلِ في الحاضر، وما المستقبلُ بأخفّ وطأةً عليها من ضياعِ ذاكَ، وفقدانِ هذا. ولعلّ الأسدَ يعبّر عن هذا الضّياعِ أجمل تعبير في قصيدتِه "حنين وثورة" التي أرّخها بسنة 1945م بقوله:



"يا نفسُ حسبُكَ تذكاراً وتَحنانــا



لا ينفعُ الذِّكرُ في استرجاعِ ما كانا



جُنِنْتِ شوقاً إلى عهدِ الصِّبا، فغدتْ



أشواقُكِ الحُمْرُ أشواكــاً ونيرانــا



لم يبقَ لي حاضــرٌ أحيا بأنعُمِــهِ



أو مُقبلٌ أرتجيهِ العيــشَ فَيْنانــا



نَقَلْتِ عيشي إلى الماضي ولذَّتِــهِ



يا ليتَ ماضيَّ فيها كــانَ أزمانــا



أجترُّها كلَّمـــا ضجَّ الظَّما بدَمِــي



أو عادَني لاعــجُ الأشواقِ غَرْثانــا



فصِرْتُ جُزءاً من الماضي أعيشُ به



ولا أُطيقُ له بُعْداً وسُلْوانــــــــا



حتّى إذا عُدْتُ أحيا حاضري نفرَتْ



منِّي الحياةُ، وأضحى العيشُ أشجانا".



إذا كان ما تقدّم قِيلَ في سنواتٍ خَلتْ بعدَ وفاةِ أبيهِ وأمّه، وبعدَ فقدانِهِ رغدَ العيشِ في كنفِهما، فإنّ مثلَ هذا لا ينقطعُ بعدَ ذلكَ أيضاً. ويبدو أنّ هذه الصّورة من الإحساس بالزّمنِ لدى الأسدِ كانت تُعاودُه في حالاتِ الفقدِ. ولعلّ مثل هذا الانبثاق للمعاني والصّور من جديد في شعر شاعر ما، وارتباطَ انبثاقِه بتجدّد الأحوال التي دعت إليه أوّلَ مرّة، أمرٌ طبيعيّ. نجدُ مثل هذا في قصيدتِه "وداع" التي كتبها يودّع الجامعة الأردنيّة سنة 1968 بعدَ رئاستِه الأولى لها، أي وهو في السادسة والأربعين:



"تؤرِّقُهُ ذكرياتٌ مضـــتْ



وعهدُ الصِّبا والسّنَى الآفلُ



تساوَتْ لديهِ السِّنُونَ فما



لهُ عاجلٌ لا ولا آجـــــلُ



وليسَ له حاضرٌ يُرْتَجـى



وليسَ لهُ في غدٍ طائــلُ".



- وزمنُ الأمَّة الجَمعِيُّ في حياتها عبرَ العصور, التي انتَقلتْ من زَمَنِ فُتُوَّتِها وشبابِها وحضارتِها ووَهَجِها وتأثيرها, وفقَدَتْ مركزيَّتها العالميَّةَ ونَماءَها الفكريَّ والسِّيادِيَّ والمادّيّ، إلى أنْ أصبحَتْ عالةً على الأُمم الأخرى، فأضحَتْ مقلِّدةً مُثْقَلةً بالاحتلالات والاختلالات. إنّ النّاظر في الأبيات الآتية من قصيدتِه "يا أهل مغربنا" المؤرّخة في يناير 1970 يقفُ على المعاني المتقدّمة التي أثبتناها أعلاهُ في الزّمن الذّاتيّ الخاصّ بالذّات الشّاعرة، لكنّ الأمر هنا متّصل بالذّات الجمعيّة ورؤية الذّات الشّاعرة للزّمن الخاصّ بها. كانت الأمّة في سالفِ العصور قويّة متمكّنة تعيشُ حياة أمنٍ ورغَد وسيادة وجاه وعزّ وسلطان، كما ترى الذّاتُ الشّاعرة، وها هي الآنَ تتعثّر كلّما حاولت الخطو، ولا سبيل لها للنّهوض إلاّ باستمدادِ روحِ تلكَ العزّة والتّضحية. الماضي الخاصُّ القريبُ الذي تشتاقُ الذّاتُ الفرديّة إليه يُعادلُ الماضي العامَّ البعيدَ الذي تحنُّ إليه كذلك، لكنّ حنينها إليه واشتياقَها لعودَتِه ناتجانِ عن هُروبِها من حاضرِ الأمّة التّعيس؛ يقول في قصيدتِه هذه:



"لمّا تغنَّيــتَ بالماضــي وعِزَّتِــهِ



أيّامَ أنْ تاهَتِ الدُّنيــا بنــا فَخْــرا



ثُمَّ اختلفنا، فصرنا في الهَوى شِيَعاً



كلٌّ لهُ دولةٌ يُزْهــَى بِهــا كِبْــرا



طَوائفــاً مزَّقَتْنــا كــلَّ مُتَّجَــهٍ



ريحُ العَداوةِ إنْ سـِرّاً وإنْ جَهْــرا



تبدَّل الحالُ غيرَ الحالِ، وانتقضَتْ



شَوامخُ العِزِّ، وارتدَّ الهُدَى كُفْــرا



نَتِيهُ من صلَفٍ والــذُّلُّ يركبُنــا



ما أبخسَ الجاهَ إذ يَسْتَعْبِدُ الحُرَّا!".



وإذا كانَت الذّات الشّاعرةُ تُحسُّ انتماءَها لزمنٍ مضى، ورغبتَها في أن يكونَ عيشُها في الماضي هو العيشَ الوحيدَ الممتدَّ، ثمّ خذلَها الزّمانُ والحياةُ بما أوقعاها فيه من ألم وحسرةٍ، فإنّها تعيشُ اغتراباً في الزّمان، ويصبحُ هدفُها الوحيدُ هو البحثَ عمّا يُعيدُ إليها توازُنَها؛ وإلاّ فإنّ الاغترابَ أشدُّ وطأةً على الذاتِ الفرديّة من الغُربة. إذا كانت الغُربةُ مفهوماً مكانيّا محضاً، فإنّ الاغترابَ مفهومٌ زمانِيٌّ محض، وواقعُ الأمر أنّ كليهما قد يقودُ إلى الآخر أو يعوِّضُه. الاغترابُ يدفعُ إلى الغربة المكانيّة لعلَّ المكانَ الجديدَ يعوِّضُ الذّاتَ عمّا يُلمّ بها من أسىً وتفجُّع، فإذا حلَّت الذّات الشّاعرةُ في مكانٍ كانَ للذّات الجمعيّة فيه عزّ مضى تضاعفَ إحساسُها بالاغتراب؛ لأنّه يصبحُ اغتراباً من مستويين: ذاتيّ فرديّ، وجمعيّ عامّ، هذا فضلاً عن التغرُّب في المكان نفسه. ولعلّ امتزاجَ الذّاتي بالجمعيّ في شعر الأسد، وامتزاجَ الغربة بالاغتراب، يتمثّلان في قصيدته "يا أرض أندلس" حيث يقول:



"أفما يحقُّ لي التفجُّعُ والأســى:



بَلَدِي هُنا، وأنا غريبُ الــــدّارِ؟



لا النّاسُ من أهلي، ولا سيماؤُهُمْ



منهُمْ ولا أوطــارُهُمْ أوطــاري



أينَ الذينَ قضيتُ عُمري بينَهــم



مذْ كُنتُ طِفـلاً ناعِــمَ الأظفــارِ



وملأتُ وجدانِي بطيفِ خيالِهــم



ورَوَيتُ عنهُمْ أعــذبَ الأشعــارِ



رافقتُهُمْ عبرَ العصُور فكانَ لــي



متنُ الخَيــالِ مطيَّــةَ الأسفــارِ



أدنَى البعيدَ كأنّــهُ لــي ماثــلٌ



وطَوَى الزّمـانَ بليلــةٍ ونَهــارِ".



- ونتيجةً لهذا التَّماهي صارَ الحَنِينُ إلى الماضِي الذَّاتيِّ هو الحَنِينَ إلى الماضِي الجَمْعِيّ, وتَماهتِ الذّات ُالشّاعرةُ بالأُمَّة؛ لكنَّ الذّاتَ التي تَمكَّنَتْ مِنَ اجتيازِ المِحَنِ والشَّدائد, وفَقَدت شَبابَها في مرحَلةٍ مبكِّرة, ونأَى عنها الجاهُ والعِزُّ والسُّلطان, رأتْ أنَّ الأمَّةَ قادرةٌ مثلها على التّجاوُز والتجدّد... إنّ رؤيةَ الذّاتِ لِمَا استطاعَتْ هي أن تُحقِّقَه انعكسَتْ على رُؤْيَتِها للأمة, فأصبحَ أمَلُها في الانبعاثِ مِنَ الرَّمادِ أمْراً مُحَقَّقاً.



هذا ما نجدُه في مجمل شعره في هذه المجموعة؛ فهو لا يسلِّم إلاّ بحقيقةٍ واحدةٍ هي التي ناجَى بها طيرَهُ الخاصّ (ذاتَه)، وهي نفسُها التي يراها قاعدةً يمكنُ أن يُعتَمدَ عليها، وذلكَ بقوله:.



"فاصْبِرْ لِدَهْرِكَ باسِماً



فالليلُ يَعْقُبُهُ الصَّباحْ".



إنّ الذي يتمكّن من رؤية التعدُّد والتنوُّعِ في الوحدَة لقادرٌ كذلكَ على رؤية الوحدة في التنوّع والتعدُّد؛ ولعلّ الإيمانَ بانبعاثِ طائرِ الأمّة من رمادِه أخضرَ طازجاً فتيّا قويّا، والأملَ بأن تتمكّن الأمّة من تحقيق عزّتها، هُما مناظرانِ تماماً لإيمانِ الأسدِ بانبعاثِ عزِّه الذّاتيِّ ومجدِه الذي أصابَهُ من الأيّام إعْناتٌ شديد، وأملِه بأن يتمكّن هو من تَجاوُز العقبات التي حالت دونَ تحقيق ما كان يصبو إليه. يضحي المشروعُ مشروعاً واحداً، والإيمانُ بالذّاتِ الفرديّة إيماناً بالذّات الجمعيّة، والأملُ في تحقيق الحُلمِ الذّاتيّ الفرديّ مماهياً لتحقيق الحلم الجمعيّ. هذا هو المعنى الأبرز في قصيدتِه "نفثة مكروب" التي قالها مناجياً العراق بعدَ حربِه مع إيران:



"فواحِدَةٌ معارِكُنا جَميعــاً



وإنْ كانتْ تُرَى متــعددَاتِ



فهلْ لي في حَنانِكِ من عَزاءٍ



يُعيدُ إليَّ أفراحَ الحيـــــاةِ



يُرِيني أمّتي اتّحدتْ وعادَتْ



إلى عِزِّ العُصورِ الزّاهياتِ".



ولأنّ الذّات الشّاعرة تمكّنت من تخطِّي كثيرٍ من العوائق والقيود وانطلقت تُنجزُ آمالها شيئاً فشيئاً بعزيمة وإصرار، فقد أصبحت ترى أنّ الأمّة –وهي أقوى من الذّات الفرديّة- قادرةٌ على تحقيق وحدتِها، وتحطيم القيودِ التي فرضتها حُدودُ سايكس-بيكو الآثمة. ويذكّرنا ناصر الدّين باللُحمة القائمة حقّا بين الذّات الفرديّة والذّات الجمعيّة، لا سيّما لدى الشّعراء الذين يتماهى الخاصّ والعامّ في أشعارهم. وهو ينظُرُ في بلادِ العرب المسلمين جميعاً بوصفِها بلدَه ووطنَه، وإلى أهلها جميعهم بوصفهم أهلَهُ. هكذا نفهمُ استبدالَه عبارةَ "دِماؤُها من دِمائي" بعبارة "دِمائي من دمائها" في قصيدتِه "تحية الشّعر لأهلنا في المغرب":



"يا بلاداً دِماؤُها من دِمائــي



للبُطولاتِ في ثَراكِ مَلاحـــِمْ



فيكِ أهلي وفيكِ موروثُ قومي



وعلى أرضِكِ العُلَى والمَكارِمْ؟



تزدَهي بالأصيلِ من كلِّ فــنٍّ



وتَشِيدُ الحَياةَ: حُلْماً لِحالِــمْ



وتُعيدُ التّاريخَ مجداً تليــداً



ورَّثَتْهُ لَنا الجُدودُ الأكارِمْ".



- ونتيجةً لهذا التَّماهِي أيضاً أصبحَتِ الذَّاتُ الشّاعرةُ تُحِسُّ غُرْبَتَها عن المكانِ والزَّمانِ الحاضِرَيْن. تَحِنُّ إلى ماضِيها وشَبابِها هيَ, وإلى ماضِي الأمَّةِ وشَبَابِها وعصرِ ازدِهارِها وقوَّتِها, وتُحِسُّ التِحاماً بالأَمْكِنَةِ الأُولى التي عاشَت فيها طُفولتَها وشبابَها قبلَ فقْدِها دِفءَ حُضورِ الوالدينِ وأمنَ الحياةِ في كنفهِما, والتحاماً حقيقيّاً بالأمكنَةِ الأُولى للأُمَّةِ حيثُ الحنينُ إلى الأماكِنِ هو تَجسيدٌ للحَنِينِ إلى زَمانِ العِزِّ والعزّةِ والسّيادةِ والمجدِ, وكِلاهُما تعبيرٌ عن الرّغبةِ في الانتصار على الصّعابِ إزاءَ الانكسارِ، وفي الوَحدةِ إزاءَ الشّتاتِ والتشظِّي، وفي الخروجِ من عُنُقِ الزّجاجةِ إلى الحياةِ الحُرّة الكريمة التي ينالُ فيها المجتهدُ نصيبَه، وتسودُ فيها قِيمُ الكرامةِ والإنسانيّة والمساواةِ، وتضمحلّ معاني الفسادِ والاستلابِ والضَّعة.



ولعلّ أكثرَ قصائدِ هذه المجموعةِ تعبيراً عن اغترابِ الأسد هي تلك التي ودّع بها الجامعةَ الأردنيّة سنةَ 1968 في نهاية رئاستِه الأولى. والقصيدةُ تجمعُ هذا الاغترابَ الجديدَ إلى ما كانَ يُعانيهِ منذ زمنٍ طويلٍ من اغتراب، ويبدو أنّ تلك الحادثةَ أعادَت إليهِ أحاسيسَ كثيرةً كانَ قد تخلّص منها مدّة من الزّمن، بعدَ أن عادَ إلى بلدِه، ووجدَ فيه شيئاً من الإنصافِ الذي عزّز لديهِ طُمأنينةً حاصرتِ اغترابَه عن واقعِه وغُربتَه في البلاد. إنّ التّأمّل في عباراتٍ مثل "ُطْوَى الأمل والآمل"؛ "وحيد الخطى كما كانَ"؛ "يجوب البلاد)"؛ "يلفّ خطاه فراغ"؛ "تنهش أيامه حيرة"؛ "يدورُ على نفسه"؛ ليثيرُ ألماً شديداً، ويؤكّد أنّ اغترابَ الأسدِ عادَ إليه من جديد في تلك الحقبة بعد أن كانَ قد تخلّص منهُ قليلاً:



"أحقّاً أنا فـــي غــدٍ راحِــلُ



ويُطْـوَى مع الأمــَلِ الآمِــلُ؟



ويمضِي الغريبُ وحيدَ الخُطى



كما كـانَ.. ليسَ لــهُ واصــلُ



يجُوبُ البلادَ.. علــى ظَهــرِهِ



نوائــبُ نــاءَ بِهــا الكاهِــلُ



يلُفُّ خُطــاهُ فــراغٌ خــؤُونٌ



يَضِــلُّ بغَيهَبِــهِ الــواغِـــلُ



وتَنهـــــشُ أيّامــَهُ حَيــرةٌ



سَدَاها ولُحْمَتُهــا الباطِــــلُ



يـدُورُ علــى نفسِــهِ لاهثــاً



ويصْرَعُــهُ الملَــلُ الغائــلُ".



إنّ الحكمة التي تستشعرُها الذّاتُ الشّاعرةُ عبرَ نظرِها في الماضي، وتستمدُّ منها ما يُسنِدُها أمامَ حالٍ لا تسرُّ في الحاضر، هي الحكمة نفسها التي كانَ الشّعراء العرب يستشعرونَها عندَما ينظُرون في أحوال الدّنيا، ويسلُّونَ أنفسهم ويسرّون عنها بما يجدونَ فيها من أهوال جِسام؛ لكنّ الأسدَ يميلُ إلى استشعارِ ما يُثيرُ التفكير الإيجابيّ والتّفاؤل. هذا ما وجدتهُ الذّاتُ الشّاعرةُ حينَما زارت صقلية وعاشت "أياماً في رحاب المجد العربيّ والحضارة الإسلامية". لقد وجدَ الغريبُ عن بلادِه، المغتربُ عن زمانِه، نفسَه في بلِرْمُو، وسَمِعَ ما لم يسمعْهُ من أغانٍ وأناشيد، وعاشَ لحظاتٍ من المجدِ والعُلا، واستنشقَ أريجَ التّاريخ، واستشعرَ الفَخارَ والعزّةَ:



"قامَ في موكبِ العُصورِ يصلِّي



خاشــعَ القلـبِ للإلهِ الأجــلِّ"



يستعيدُ الماضي التّليدَ... ويتلُو



صَفحاتٍ من الفَخَارِ... ويُمْلـِي



في روابي بَلِرْمَ.. موطِنِ مَجدِي



وطَريــقِ العُلا ومَرتَعِ خَيْلِـي



قال لي صاحبي: أغرَّبْتَ عنـّا؟



قُلْتُ: لا، إنّني هُنا بينَ أهلــي



باعــدَ الدّهرُ بيننا فنَسينــا



رَحِماً حبلُها وثيقٌ بِحَبْلِــي".



ليس صحيحاً أنّ الذّاتَ الشّاعرة اغتربت عن الزّمانِ والمكانِ الحاضرين رغبةً في ذلك، ولا أنّها لا تُحسّ انتماءً إليهما؛ بل إنّها وقعت تحتَ وطأةِ ذلكَ الاغتراب، هي لم تغترب عن أمّتها ولا عن بلادِها ولا عن زمانِها وحاضرِها لأّنّها سلَفيَّةٌ بالمفهوم الزّمانيّ... إنّها البلادُ والعبادُ والأمّة تغرّبت كلُّها عن حالِها وعن عناصرِ مجدِها وقوّتها. ولأنّ الذّاتَ الشّاعرةَ تنتمي بكلِّها إلى الأمّة المجيدة التّليدة السيّدة الحرّة المستقلّة الأبيّة، وتريدُ لهذه الأمّة والبلادِ والعبادِ أن تعودَ إلى ذاتِها، وتمتلكَ زمامَ أمرِها، ولا تضعُفَ أو تغتربَ عن تلكَ الذّات، فإنّها تحسّ بذلكَ الاغتراب.



وتكادُ الذّاتُ الشّاعرةُ تستريحُ إلى الحسِّ الصّوفيّ الذي يتراءى حيناً وآخرَ في هذه المجموعة؛ ولعلّ هذا الحسّ الصّوفيّ ناشئٌ عن درب الآلام الذي قطعتهُ الذّاتُ ودرجَت فيه سالكةً إلى أمانيها، وعن الصّبر الجميلِ الذي احتملتُه معها في هذا الطّريقِ وهي تعلمُ أنّه طويلٌ ويطُولُ في آنٍ معا. تعشُو الذّاتُ إلى ضوءِ نارٍ تستشرفُه بعيداً عميقاً في الزّمان، وهو خيطُ النّور الذي تسيرُ في هديِه غيرَ عابئةٍ بالألم، ولا بتباعُد الأمل. إنّ إصرارَ الذّاتِ الشّاعرة على استبقاء نقطة الضّوء تلكَ سبيلاً هادياً لها يمكنُ تفسيرُه بأنّها أرادَت نقطةً ثابتةً تنظرُ إليها في الدّرب الطّويل، فهي ثابتةٌ مع كلّ ما يتغيّر من حولها، وهو الذي يوفّر لها عنصر الثّباتِ على مواقفها ومبادئها وهَواها. إنّ ثباتَ نقطةِ الضّوء في الماضي هو الذي جعلَ الأسدَ مغترباً عن حاضره وأهله وأمّته في وضعِها الحاليّ الممزّق المتشظّي، وهو أيضاً الذي عوّضهُ عن الإحساس بالألمِ بما أمدّه من أملٍ بالانبعاثِ من جديد:



"تعشُو إلى ضَوئِها الأبصارُ والهةً



ويهتدي بسَناها كــلُّ سيّـــــارِ



مسافرٍ في ضميرِ الغيبِ أرهقــَهُ



طُولُ السُّرَى وفِراقُ الأهلِ والجارِ



يظلُّ يخبِطُ في حَلٍّ ومُرتَحَــــلٍ



حتّى يرى من بعيدٍ لَمْحَ أنْـــوارِ



ناراً على علَمٍ تهدي مسيرَتَــــهُ



وتَبْعَثُ الأمْنَ فيهِ بعدَ أخطــــارِ".



- ونتيجةً لذلكَ يضحي الزمن سخيفاً وأهلُه كذلك، وكذلك البلاد: كثيراً ما أحالَ الشّعراء العربُ ما يُصيبُهم من بَلوى وانكسارٍ على الدّهر وصُروفه والزّمان ونوائبِه والأيّام وتعاقُبها. وكثيراً ما كانَ ذلكَ يجسِّدُ هُروبَهم من الحديثِ عن الأسباب الحقيقيّة التي كانت تُحيلُ حيواتِهم حُطاماً، أو رغبةً منهم في تهويلِ مُصابِهم. وحقيقةُ الأمرِ أنّ هذه الإحالةَ وذلكَ الاتّهامَ يدلاّن دلالةً مُباشرةً على أنّهم كانوا غيرَ قادرينَ على مُواجهةِ الأسباب الحقيقيّة، فهم أضعفُ مثلاً من مواجهةِ الموتِ، وقدراتُهم لا تمكّنهم من التّحكُّم في تحوّلاتِ مجتمعاتِهم التي تنأى عَمّا تُؤمنُ به الذّواتُ الشّاعرة.



ولعلّ الأسد الذي امتزجت ذاتُه بماضي الأمّة، وتراءى لها ماضيها الخاصّ جُزءاً من الماضي العامّ المجيد (!)، وتماهَت في تراثِ الأمّة راغبةً في إحيائِه وبعثِ الحياةِ فيه من جديد بما يُعيدُ إلى الأمّة كرامتَها، ويعيدُ إلى الذّاتِ الشّاعرة أيضاً إحساسَها بالأمنِ والطّمأنينة – كانَ يبحثُ عن بديلٍ موضوعيّ لما فقدَه على صعيدٍ شخصيّ. وهذا ما يمكنُ فهمُه من قوله في بيتٍ مُفردٍ:



"مُنْتَهى العَقلِ أنْ تَعيشَ سَليباً



في بلادٍ ترى الخَناعةَ عَقْلا".



إنّ التّقاطُعَ الكثيفَ بينَ رُؤيةِ ناصرِ الدّين لتقلُّبِ أحوالِه الشّخصيّة الذّاتيّة من حالٍ كانَ يجدُ فيها تحقُّقَ ذاتِه، ورؤيتِه لتقلُّبِ حالِ الذّاتِ الجمعيّة (الأمّة) من حالٍ كانت فيها في قمّة التسيُّدِ والعِزّة بحيثُ تحقّقت ذاتُها، هو الذي جعلَهُ يَنعى على الزّمانِ والأيّام والدّهر، ويرى فيها السّببَ الذي نتجت عنهُ تلك التحوّلات؛ يُضحي الزّمانُ سخيفاً، ويمسي الدّهرُ حَرْباً، وتصيرُ الأيّامُ فاعلاً سلبيّا في حاله الخاصّة وحال الأمّة العامّة. لكنّ الحُكمَ بسُخْفِ الزّمانِ لا يمكنُ إطلاقُهُ على عواهنِه، فالأسدُ يدركُ تَماماً قولَ الشّافعيّ قديماً: "نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا"، ولذلكَ فإنّه يجمعُ إلى سُخْفِ الزّمانِ سُخْفَ أهلِه:



"سُخْفُ الزّمانِ وأهلِهِ لا ينقضي



فاعجَبْ لِدَهْرٍ كلُّهُ سُخْفُ!".



ويبثُّ الأسدُ شكواهُ المؤلمةَ ممّا يعيشُهُ هو، وتعيشُه الأمّةُ. صحيحٌ أنّه ينعى على الزّمانِ وصُروفِه، لكنّه أحياناً يصرّحُ بالمشكلة الحقيقيّة التي جعلتُه يصبّ جامَّ غضبِه على الزّمان وتقلُّباتِه. إنّ تقلُّبَ الأحوالِ به مماثلٌ لتقلُّب الأحوال بالأمّة. هنا تلتقي الذّاتُ الفرديّة بالذّاتِ الجمعيّة في مسارٍ واحد، وتتنقّل الذّاتُ الشّاعرةُ بينَ مُصابِها الشّخصيّ ومُصابِ الأمّة الجمعيّ محاولةً إيجادَ فُرجةٍ من الأملِ تخفّف عنها مصابَها. وإذا كانَ الصّبرُ وحدَه هو المنجاةَ، والانتظارُ والترقُّب لعودةِ الأحوالِ بالذّاتِ الشّاعرة والأمّة إلى سابقِ عهدِهما هو المُتاحَ، فإنّ الإيمانَ يُتيحُ للذّاتِ رؤيةً تُكسبُها مزيداً من الوثوقِ بأنّ الليلَ يتلُوهُ صباحٌ يغلبُه.



ويبوحُ الأسد بتلكَ الأهوالِ التي دهَت الأمّة في تأبينِه لسليمان الحديدي (1993)؛ بل يجعلُ رحيلَ الفقيدِ عُزوفاً منه عن حياةٍ ضجّت بالهَوانِ والفُرقة والذّلّ والاقتتال الدّاخليّ ومكائدِ الأهل بعضهِم لبعض، وتمزيقِ الأعادي للبلادِ والعباد. إنّ هذا الخِطابَ يحملُ في طيّاتِه ضِيقَ الذّات الشّاعرة بهذه الأحوالِ جميعِها، وما تساؤُله عن سبب رحيلِ الفقيدِ الحديديّ إلاّ تساؤلٌ إنكاريّ من الذّات الشّاعرة. وإنّ ضيقَ الأسدِ بهذه الأهوالِ رفضٌ لكلّ ما فيها، وهذا الرّفضُ نتيجةٌ طبيعيّةٌ لمقارنتِه بينَ حال الأمّة حاضراً وحالها في ما مضى: موحَّدةً قويّةً، لا يفتّ في عضُدِها الأعادي، ولا يكيدُ لها أبناؤُها، عزيزةً منيعةَ الجانب. كانت الحياةُ حقيقةً بالعيش طُولاً وعرضاً، أمّا في هذه الأيّام فالموتُ أرحمُ من معاينةِ الخرابِ الذي يعمّ كلّ شيء:



"ما الذي عِفْتَهُ وساءكَ منّـــا



فغذَذْتَ الخُطى لقَفرٍ يَبــابِ؟



أتُرى ضِقْتَ بالذي قد دَهانــا



من هَوانٍ وفرقَةٍ واحتــرابِ؟



لم تُطِقْ ذُلَّنا وما نحنُ فيـــه



واقتتالِ الإخوانِ والأحبــابِ



ما كَفانا أنْ مزَّقَتْنا الأعــادي



وأتانا الهَوانُ من كلِّ بـــابِ



فتوالتْ مكايدُ الأهلِ فينــــا



بسِهامٍ مسمومةٍ وحِـــرَابِ".



وفي مناجاتِه للعراقِ التي غابَ عنها دَهراً بسبب الحرب العراقية الإيرانيّة وموقفه الرّافض لها، تجدُ ناصر الدّين يصرّحُ صراحاً بواحاً بعلَّة الأمّة، وبعلّته الشّخصيّة كذلك. إنّ اختلافَ أمر الأمّة، واضطرابَ أَحوالِها، وضعفَها وهَوانَها على الأمم، وضَلالَها وسَفاهَها، هي العللُ الكامنةُ والماثلةُ وراءَ هذا الحال المُمِضّ. ويقرّر الأسدُ أنّ تقديسَ الأمّة لحكّامِها وتأليهها لهم هو الذي أوصلَها إلى هذا الدّرَكِ العميقِ من الهاوية. وإذا كان العربُ قبلَ الإسلامِ مشتّتينَ: مناذرةً تحرِّكُهم أصابعُ الدّولة الفارسيّة شرقاً، وغساسنةً تتلاعبُ بهم أصابعُ الدّولة الرّومانيّة شَمالَ غربٍ. أضحت الأمّة لا عُروبةَ تصونُها من الانقسام، ولا إسلامَ يجمَعُها:.



"يقتِّلُ بعضُنا بعضاً سَفاهـاً



ولكنَّــا نَلِينُ مــعَ العُــدَاةِ



وأضحيْنا قبائلَ من جديــدٍ



نُقَسَّمُ في العَشِيِّ وفي الغَداةِ



تُحرِّكُنا الأصابعُ من خفــاءٍ



فما نَدري غُواةً مـِنْ هــُداةِ



وقد كَثُرَتْ عــباداتٌ لدَينـا



فَمِنْ عـُزّى نُقدِّسُهــا ولاتِ



فلا الإسلامُ يجمَعُنا، وليستْ



عُروبَتُنا بِمانِعـَةِ الشَّتــاتِ".



- تَناثُر الأمانِي والأحلامِ، وانقِضاء عَهْدِ الصِّبا سَرِيعاً, وانقشاع لَذاذَةِ العَيْش: الأسدُ الذي ارتبطت نفسُه ارتباطاً عميقاً بالماضي الجميل، وعاشَ حياةً سعيدةً في كنَفِ والدَيهِ لكنّها لم تلبث أنْ تنقضيَ سريعاً بعدَ فقدِه لهما، هو نفسُه الأسدُ الذي رزحَ تحتَ وطأةِ الإحساسِ بذُبولِ ربيعِ الأمّة ويَباسِ وُرودِها. لقد ظهر هذا المعنى مراراً في هذه المجموعة، بل لعلّه كانَ يترسَّخُ أكثرَ وأكثر، بما يجسِّدُ عُمقَ المعاناةِ كلّما تقادَمت به الأيّام. وإذا كانت اللحظاتُ السّعيدةُ والأفراحُ التي يندُرُ أن يتمتّع بها الإنسانُ تمرُّ مرَّ السّحاب، فلا تقيمُ على حالها إلاّ قليلاً كالأحلام، فإنّها تضحي خُدعةً أو وهماً يعيشُ الإنسانُ لذاذتَهُ الخلاّبةَ ثمّ يعودُ إلى الواقعِ المرير الذي لا يرحَم. وتُصبِحُ هذه اللحظاتُ عبئاً على الإنسانِ حينَما يُقارنُ بينَ حاضرِه الحَنظَلِ وماضيهِ الذي هَنِئَ فيه بلحظاتٍ سعيدة. المشكلةُ إذن في الحاضرِ الأليم، وضياعُ لحظاتِ الفرحِ يزيدُه إيلاماً:



"أمَلٌ ما لاحَ حتّى انقطَعا



وهــَوىً ما حلَّ حتّــى ودَّعــا



وأمانيُّ تملَّيْنـــا بهــــا



وحَسِبْناهــا يَقينــــاً أينَعــا



فإذا ما كانَ من عذْبِ المُنى



عَلقَــمٌ أجــرَعُ منــهُ جُرَعــا



وإذا طيبُ الأحاديثِ غـــَدَا



حُرقَةً في النّفسِ تكوي الأضلُعَا



هكذا الدُّنيا: خيالٌ مُؤنـسٌ،



ثُمَّ لا يلبثُ أنْ ينقَشِعَا".



ولا ينفكُّ ناصرُ الدّين يكرِّرُ هذا المعنى الأخيرَ، حتّى يكادَ يكونُ جوهراً في هذه المجموعة الشّعريّة؛ فهو ينوِّعُ في صيغتِه بين حينٍ وآخر، غيرَ أن فحواهُ تظلّ واحدةً.







9_



وكان في النيل لقاء..



















عواطف حافظ - كانت الصدفةُ هي خير ما جمعنا، فقد تعرفت على د.ناصر في العام 1946، وكان ما يزال طالباً في جامعة القاهرة. عرفتُه يوم دَعَتني صديقة لي تدرسُ في الجامعة إلى رحلة في النّيل إلى القناطر، فذهبت، وكان في المجموعة؛ وتعرّف على أخي واستمرّت صداقتهما، كما أصبح هناك تعارف بيننا وتوطّد ذلك بقصة حب جميلة جمعت بين قلبينا، وبعد أشهر معدودة تمت خطبتنا.



***



كان حينئذ طالباً في السنة الثالثة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وأنا طالبة في الثانويّة العامّة، فانتظرنا حتى تخرجنا، ثم جرى عقد قراننا وإعلان حفل زفافنا في سنة 1947 وفق التقاليد والزفة المصرية.



***



تقلد د.ناصر مناصب كثيرة، وجميعها قريبة إلى نفسي، لأنها تدور في مجال العلم والأدب، وتدور في سلك التعليم، وقد تمكن د.ناصر من إثبات حضوره وتكريس علمه فيها، لأنه يعمل بضمير وقلب.



وقد رفض العديد من المناصب الأخرى، وعندما أصبح سفيراً للأردن في جدّة سنة 1978، لُقّب بالأديب السفير، لشدة حبه لعلمه وأدبه.



***



ثمرة زواجنا أربعة أبناء، أنا دائمة الفخر بهم، أكبرهم "بشْر" خريج كلية الهندسة من جامعة عين شمس، و"وائل" خريج الأدب الإنجليزي من جامعة عين شمس ويحمل شهادة الماجستير في إدارة الأعمال. ثم طريف، خريج "تجارة" من جامعة عين شمس، أما ابنتنا سلافة، فتحمل شهادة الماجستير في الأدب الإنجليزي من الجامعة الأردنية.



***



نسكن في البيت الذي أقمناه على أرض لنا منذ سنة 1987، وقد صمم بناءه ابننا بشر، وأفردَ للمكتبة مساحة واسعة، وهي مكتبة تهمّني وتخصّني، أحبها كما أحب أبا بشر، وهي تعني لي الكثير.



***



أثناء وجودي في مصر سافرت إلى تونس والمغرب بحكم مرافقتي لأبي بشر، وحضرتُ كل ندواته ومؤتمراته الخارجية، فأصبحتْ لديّ ألفة شديدة لهذه البلاد. أحس أن كل بلد عربية عزيزة عليّ، ولا أحس بالغربة فيها إذا سافرت لها. وعندما انتقلنا إلى عمّان للإقامة فيها العام 1963، شعرت أن الأردن بلدي الثاني عن حق وحقيق.



***



أبو بشر يتألم كثيراً لكل ما يمس الضمير والأمة العربية من سوء، فالوضع الحالي الذي تعيشه الدول العربية صعب ومؤلم لكل إنسان وطني عربي شريف.



***



د.ناصر قليل الأكل، فهو يميل إلى الطعام البسيط. أحَبّ الأكلات إليه الأكلات المصرية، مثل الفتّة والملوخية، أما الأكلات الأردنية فيفضّل من بينها المنسف.



***



أهم المناسبات التي تجمعنا ويصر أبناؤنا كثيراً على إحيائها، مناسبة عيد ميلادي وعيد ميلاد أبي بشر.



***



د.ناصر يحب الشعر والبحث المتواصل، واللغة العربية عنده مهمة جداً. وقد كتب الشعر الغزلي والوطني، وأهم قصيدة كتبها كانت قصيدة خاصة لي ما أزال أحتفظ بها، فأنا أحب الشعر وأقرأ لكثير من الشعراء العرب.



***



دوري في رحلة نجاح أبي بشر، كان معنوياً، حيث كنت أهيئ له أجواء خاصة، يهمّني أن أجده مشغولاً بكتابته، لأني أعرف عندها أن د.ناصر والكتاب ضلعان متماسكان لا يفارق بعضهما بعضاً، فعندما يترك كتابه أحسُّ أنّه ضاقَ بأمر ما، والكتاب يقرّبني منه أكثر، وأنا بوصفي ربَّة أسرة احتضنتُ أبناءنا وربيتهم تربية سليمة، وكنت أجنِّبه مشاكل الأبناء والبيت. والحمد لله تمكن د.ناصر من صنع النجاح الذي يريد.



***



زواجي بأبي بشر أثمر الكثير من الأحداث الجميلة، لأن الحب والوفاق ظل موجوداً بيننا، وقد أكرمنا الله بأبنائنا، كما أكرمنا باثني عشر حفيداً، فأنا مع د.ناصر كسبت الكثير، ولم أخسر شيئاً.



***



في السابق، كنت أقضي وقتي في العزف على البيانو والعود، لكني حالياً انشغلت كثيراً ما بين البيت وزيارات الأصدقاء. هواياتي متعددة، منها قراءة الشعر وسماع الموسيقى وأغاني أم كلثوم وعبدالحليم، كما أحب الخياطة والتطريز.



***



أعتزّ بكل مؤلفات د.ناصر، لكن أهمها كما أرى رسالة الدّكتوراه "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية"، ورسالة الماجستير "القيان والغناء في الشعر الجاهلي".



***



ومما قاله أبو البشر فيّ:



"بَنَتْ عينــاكِ لــي دنيـــا



أُطلُّ بها علـى الغيـــبِ



رأيتُ تناقضـ``اً حــلــــواً



يُحيّــر كـــلَّ ذي لـبِّ



وفي عينيـــــكِ كُفــ``رانٌ



يقودُ حِجَايَ للرَّيـــبِ".



وقال أيضا:



"عيناكِ تَغْسِلني من الرِّجْسِ



وتُطهِّراني من هَوى النَّفْسِ



عيناكِ ما أحلَى الهوَى بهِما



وألــذَّهُ للأنفُـس القُـدْسِ



عيناك حدَّثتا جوَى قلبــي



هَمْساً حديثَ النَّفْسِ للنَّفسِ



قد قالتَا: إن الهـوى ســرٌّ



تُوْحي بهِ العينانِ بالهمسِ".



10_



الأسد و«مجالس الأدب»



















د. ماهر مبيضين



كنت في ما مضى، وما أزال شغوفاً بقراءة كل ما يكتب علامة العصر د.ناصر الدين الأسد، ومتابعاً لما أجده مبثوثاً هنا وهناك، من آراء قيمة يصرح بها في ندواته ومجالسه العلمية والأدبية، من خلال اللقاءات الإذاعية والتلفزيونية التي أستمد منها المعلومات الجديرة بالعناية والاهتمام، والجديرة كذلك بالبحث والاهتمام، وهي التي تفتح أمام الباحثين الجادين آفاق التفكير والرقي المعرفي والثقافي.



وقبل هذا كله كنت أحد تلامذته الذين شرفوا بالتتلمذ على يديه الكريمتين، والذين نهلوا من معين علمه الذي لا ينضب، والذي كان معينا لطلبته في مجال البحث والدرس، واستشراف الرؤى المستقبلية في ما يخص لغتنا العربية وآدابها وتراثنا العربي والإسلامي الزاخر.



أما مجالس الأدب التي يعقدها العلامة الأسد في مكتبه ضمن البرنامج الذي يعده ويقدمه الكاتب د.خالد الجبر، فهو شاهد عيان على ما يتمتع به علاّمة عصرنا من فكر منير، وثقافة واسعة في كل ما يطرح من موضوعات ذات علاقة وثيقة باللغة والأدب والحضارة، ففي كل مجلس من هذه المجالس التي كنت وزملائي في جامعة الشارقة، وهم من الجنسيات العربية المختلفة، شغوفين بمتابعتها دون أن نفوت متابعة مجلس واحد منها، والذي نخرج منه بكل ما هو جديد يعيننا في مجال البحث والدراسة.



ولعلي وكثيرا من الباحثين المتابعين لـ"مجالس الأدب"، نقرّ بأنّ هذا البرنامج دون غيره قد نجحَ في إظهار ما يتمتع به الأسد من سداد ورأي وبصيرة علمية نافذه، وأخلاق عالم جليل يعرف كيف يحاور ويجيب، ويمكن إبراز تلك المزايا من خلال ما يلي:.



- عنوان البرنامج "مجالس الأدب"، وطريقة طرح الموضوعات، تذكّرنا بمجالس العلماء القدامى الذين كانت لهم إسهامات كبيرة في اللغة والأدب والفكر والحضارة العربية والإسلامية، فجاء عنوان البرنامج يتناسب ومقام أحد مبدعي هذا العصر ومفكريه.



وهذه المجالس تذكّرنا بالمجالس الأدبية التي كان يعقدها الملك المؤسس عبد الله الأول، والتي كانت تعقد من حين لآخر في قصر رغدان أو قصر المشتى برعاية جلالته، تدور فيها المساجلات الشعرية والمطارحات الأدبية، والنقاشات الدينية والعلمية. وتذكّرنا أيضا بمجالس محمد إسعاف النشاشيبي وندواته التي كانت تملأ السمع والبصر والفؤاد كما هي حال مجالس علامتنا الأسد، الذي يتحفنا بمعارفه، وآرائه القيمة.



- كشفت هذه المجالس عما يتمتع به الأسد من ملكة حفظٍ وأسلوب مميز في عرض الموضوعات، وإبداء الآراء، إذ كان يتحدث وكأنه يقرأ من كتاب وفضلاً عن ذلك، فقد أبرزت المجالس كثيراً من ملامح شخصية عالمنا الكبير الدالة على تقصّيه ودقة ملاحظته وبلاغته، وأسلوبه الجميل وحسن إصغائه، وتقبله لآراء الآخرين دون أن يفرض رأياً على أحد، وهذه هي أخلاق العلماء الأجلاء الكبار، ناهيك عن أسلوب الأسد الذي يجعل المشاهد منجذباً بعقله وفكره متابعاً لكل ما يطرح في المجلس دون ملل أو سأم.



- إن تنوع الموضوعات المطروحة في المجال يدل على وعي وذوق في الاختيار، وأسهم بشكل واضح في إبراز الهوية العربية والإسلامية والكشف عن تراث الأمة وحضارتها، بخاصة عندما كان الأسد يتكئ كثيراً على تراثنا العربي الشعري الذي استدل من خلاله على آرائه التي كان يطرحها في موضوعات المجالس.



وتنوع هذه الموضوعات يؤكد أن الأسد يخرج من دائرة التخصص المغلق إلى دائرة ثقافية وفكرية وحضارية ومعرفية أشمل وأوسع وأغرب، لما يتمتع به من موروث ثقافي وعلوم متنوعة، فتجده مختصاً في كل حقل من حقول العلم والمعرفة.



-لم يبخل الأسد من خلال هذه المجالس بتوجيه جملة من النصائح للباحثين والدارسين التي تصب في مجملها بالبحث في الحقيقة، ومناقشة كل ما سجلته المصادر من معلومات تاريخية وأدبية، وبخاصة تلك التي شوهت صورة بعض الشخصيات الأدبية والتاريخية، ومثال ذلك ما طرحه الأسد بخصوص ما تعرض له الشاعر أبو نواس من ظلم تمثل في تزوير بعض جوانب شخصيته.



- لقد كانت "مجالس الأدب" حافلة بالباحثين من ضيوف العلامة الأسد، إذ كان هناك موازنة في اختيار الضيوف دون التركيز على فئة بعينها، فهناك الباحثون من الشبان، وهناك العلماء والكتاب، ولم يقتصر الاختيار على المتخصصين في الأدب فقط. إذ شارك في المجالس علماء أفاضل من غير المتخصصين في مجال الأدب، ولكن كانت لهم اهتمامات أدبية، ولقد أتاحت هذه المجالس وبخاصة لفئة الباحثين الشبان فرصة اللقاء مع الأسد، ومحاورته ومناقشة آرائه.



- ثمة مزية أخرى تضاف إلى هذه المجالس، وهي في مكتبة الأسد، فمقدم البرنامج والمشاركون هم ضيوف الأسد في مجلسه الأدبي، فكان اختيار المكان يحمل دلالة كبيرة على أهمية الكتاب، وضرورة اقتنائه ومطالعته.



وبحق، لقد كانت هذه المجالس زاداً فكرياً وحضارياً وثقافياً، للباحثين في مجال الأدب واللغة والحضارة شكلت ظاهرة لافتة، ونقلة نوعية في طبيعة البرامج الثقافية التي تقدمها الشاشات العربية.







11_



سجاياه العلميّة: قُلٌّ من كُثُر



















د.عمر عبد الله الفجّاوي



حين ينتوي الحديث امرؤ عن شيخ من طبقة الأستاذ الشّيخ ناصر الدّين الأسد، فعليه أن يكون محيطاً إحاطة وافية بخلائق السّلف الصّالح العلميّة، وطبائعهم في أخذ العلم من أهله، فأولئك أناس سمت بهم هممهم إلى المعالي، فلم يرضوا بالقليل الزّهيد من العلم، بل كانت عزائمهم لا تربع إلا بالتّمام، فتجد أحدهم حادّ الطّبع ملتهب القريحة، وقد كان شيخنا كذلك.



وسأصرف كلامي على قضيّة واحدة من أمارات المنهج العلميّ عنده، وهي شدّة التّحوّط والتّحرّز، وهذه مسألة متراحبة إذا رام المرء الاستبحار فيها، وهي واحدة من قضايا كثيرة يمكن للقارئ المحقّق أن يتلمّسها في مصنّفات شيخنا، ولكنّني سأقف حديثي على حسن تخيّره للألفاظ، وما يكتنف هذه المسألة من سجايا وشمائل.



وإنّما تخيّرت إدارة الكلام على هذه المسألة؛ لأنّني ألفيت كثيراً من النّاس في زماننا وأقولها بكلّ مرارة إلا من اكتوت أيديهم بجمر اللغة، وحرّقوا أكبادهم في التّنقير والنّبش –ألفيتهم وقد أشاحوا بوجوههم عنها، وجعلوها دَبْر آذانهم، ولم تعد تشغل بالهم إلا كناقة كعب: وقعهنّ الأرض تحليل، وهذه فرية من غير مرية، فقد تنكّبوا جادّة الحقّ، وعفّوْا دروباً كان الأُلى من أمثال شيخنا قد لَحَبوها، وأخمدوا زنداً قد اقتدحوها، فلم ينه حليم سفيهاً، ولم يعظ عالم جاهلا، عذيري الله منهم.



ولا أزعم أنّ شكاتي هذه هي الأولى، بل وجدت لها تاريخاً، فقد أعلن ابن قتيبة (ت 276 هـ) في مقدّمة "أدب الكاتب" غضبه واستفزازه من الحال الّتي وصلت إليه اللغة بين أبنائها، ثم يأتي بعده ابن دريد (ت 321 هـ) في "جمهرة اللغة" ويقيم النّكير كذلك على أهل زمانه في القرن الثّالث والقرن الرّابع الهجريّيْن حين نبذوا اللغة، ثمّ نرى ابن منظور (ت 711 هـ) يرفع عقيرته احتجاجاً على مثل هذه الحال، فيقول في مقدّمة "لسان العرب": "وذلك لما رأيته قد غلب، في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتّى لقد أصبح اللحن في الكلام يعدّ لحناً مردوداً، وصار النّطق بالعربيّة من المعايب معدوداً، وتنافس النّاس في تصانيف التّرجمانات في اللغة الأعجميّة، وتفاصحوا في غير اللغة العربيّة، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون".



وأوّل ما يلفيه أحدنا في هذه القضيّة عند الأستاذ الشّيخ هو أنّه أمام عالم ثبْت عدْل، حين يتحدّث أو يكتب، فلا يرسل الكلام إرسالاً، وهو دوماً يفيء إلى التّحقيق والتّثبّت، وقد أعلن هذا في مقدّمة كتابه النّفيس "تحقيقات لغويّة" فيقول: "كانت الكلمة -من حيث هي لفظة مفردة، ومن حيث هي لبنة في بناء نظم الجملة- موضع شغفي: بإيحاءاتها وموسيقاها وألوانها وظلالها وامتداداتها، منذ صباي المبكّر، حتّى لقد كنت أحسّ أحياناً كأنّ اللفظ كائن حيّ، أحاوره وأداوره، ويحاورني ويداورني، قبل أن يستقرّ في موضعه من الجملة وأرفع به قلمي".



فهذه شرعة الأستاذ الشّيخ في مصنّفاته، فالاستقصاء سمة غلابة عليه، وهو يتقن محاورة النّصوص وتقليبها وقراءتها، ولا ينظر إلى النّصّ التّراثيّ بعين القداسة، بل يعرضه على المنهج العلميّ والعقل، فإن قبله، وإلا حاوره ورأى رأيه فيه، فأن يقرأ رجل كتب التّراث حتّى يجد فيها استعمال لفظ ما أمر تكتئده العِقاب، ولكنّ شيخنا كما يقول حبيب بن أوس الطّائيّ يردّه إليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر، فهو ذو همّة شمّاء ونفس وثّابة، وكأنّه يتمثّل قول موفق الدين الإربلي:



"فتراخى الأمر حتى أصبـحـت



همــلاً يطمع فيهـا مـن رآهـا



تخصب الأرض فلا أقـربـهـــا



رائـداً إلا إذا عـز حـمـاهـــــا



لا يراني الـلـه أرعـى روضـــةً



سهلة الأكناف من شاء رعاهـا".



ويهتمّ الأستاذ الشّيخ بالتّصحيح والضّبط، وهي شرعة القدماء، فقد علَّمَنا أنّ الضّبط على ثلاثة أضرب: بالقلم، وربّما يخطئ فيه المرء، أو يزلّ به القلم، والضّبط بالعبارة، كأن يقال: سَداد بفتح السّين، وكم شدّد وأقام النّكير على الّذين يتناشدون بيت العرجيّ: "أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا / ليوم كريهة وسِداد ثغر". فالنّاس -إلا أقلّهم- يفتحون السّين، والصّواب كسرها في هذا البيت، فالسَّداد –بفتح السّين- هو الرّشاد، والسِّداد -بكسرها- ما يسدّ به الشّيء، أمّا السُّداد -بضمّها- فمرض يصيب الأنف.



والضّرب الثّالث هو الضّبط بالتّمثيل، كأن تقول: خَلَل، تجمع على خِلال، مثل: جَبَل جِبال. أو: قُرْعوش وقِرْعَوْش وتعني: الجمل بسناميْن، مثل: عُطْبول، وفِرْعَوْن وفِرْدَوْس.



والأستاذ الشّيخ لا يدع فرصة للتّصحيح -وبخاصّة لتلاميذه- إلا ويصحّح، فالزِّفاف، بكسر الزّاي، لا بفتحها، وسِداد لا سَداد في بيت العرجي، وكم قوّم لي أخطاء، بارك الله فيه وفي علمه، وكان يثني على المحسن، وأثنى عليّ كذلك.



وما أزال أذكر أنّه أطال الحديث في مجالس كثيرة لطلبة الدّكتوراه للحديث عن لفظة عِرار بكسر العين، ولم يكن يخطّئ فتحها، ولكنّ اللغة العليا لها في الحديث عن مصطفى وهبي التّلّ بالكسر لموافقة حاله بحال عِرار ابن عمرو بن شأس الأسديّ: "أردتِ عِراراً بالهوان ومن يرد / عِراراً لعمري بالهوان فقد ظلم".



وقد لاحظت اضطراباً كبيراً في كتب التّراث في ضبط اسم هذا الشّاعر، بالفتح وبالكسر، كما اضطربت في غيره، مثل: ابن المقفَِّع باسم الفاعل والمفعول، لكنّ ابن مكّي الصِّقلّيّ في تثقيف اللسان وصلاح الدّين خليل بن أيبك الصّفديّ أفتيا في أنّه باسم الفاعل لا باسم المفعول؛ لأنّ أباه كان يبيع القِفاع، وهي السَّلات.



ولا يعبأ الأستاذ الشّيخ إلا بالحقّ، لذلك كان يُعْظِم النّكير على القائلين بالتّسمّح في الخطأ: خطأ شائع خير من صواب مهجور، ويغضب من هذه القالة وقائليها، ويعدّها عبارة غير أخلاقيّة، ولكنّه لا يفرط ولا يطغى، بل هو تقيّ الغضب شهم الخصومة، وقد وهب الله له لساناً وبياناً يصنعان أكثر ممّا يصنع الصّيقل العَضْب.



ولأستاذنا الأسد في تصحيحه خلقان: فحين يستمع إلى اللحن من أحد تلاميذه يقوّمه من غير أن يَسْفَهَه أو يحطّ شأنه، ويأخذ بيده ويدعوه قائلاً: "حقِّقْها وأنا سأحقّقها كذلك"، ثمّ يأتي في المجلس التّالي وقد نظر فيها ولم ينسها ولم يطّرحها، بل يتابع الأمر متابعة شديدة، وله لازمة كريمة في تصحيحه يكرّرها إذا بلغ الأمر حدّ المراء، أو لا يريد إحراج الآخر فيقول: "أنا لا أعرف هذا"، وهي عبارة تعني التّواضع، وتعني للآخر في الوقت نفسه أنّ الشّيخ مع سعة اطّلاعه لم يعرف هذا، وكأنّ فيها إنكاراً لما يقول القائل، وحسبك بشيخ مثله محقّق أن يقول: "أنا لا أعرف هذا".



أمّا الخلق الآخر فيتبدّى في حسن تصحيح المخطئ في ذوق رفيع، فأذكر في إحدى المناسبات أنّ أستاذاً كان يتحدّث في حضرته فمنع ما حقّه الصّرف توهّماً، وحين جاء دور الأستاذ الأسد في الحديث، استعمل اللفظة وصرفها كما تقتضي الأصول النّحويّة، من غير أن يشعر المتحدّث بخطئه، ولكنّه حين صرفها أبدى نبرة تنبئ بصرفها، وهي كلمة "أسماء"، تصديقاً بقول الله تعالى: "ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سمّيتموها انتم وآباؤكم..".



ومع كلّ هذا الّذي قدّمت، فلم يكن الشّيخ -مع تحوّطه وتحرّزه- يقطع الأمر أو يبتّه، ولا يذهب مذهب التّخطئة، بل يستعمل اللغة العليا، ثمّ ينهي قوله بعد النّظر في المسألة بقولين: "لا يجري بهذا قلمي ولا لساني"، ثمّ يعطف على ذلك كلّه بقول: "والله تعالى أعلم".



ولا بدّ من الإنباه على اهتمامه بدقّة تخيّر المصطلح، إذ صنّف كتاباً وسمه بـ: "نحن والعصر: مفاهيم ومصطلحات إسلاميّة" تحدّث فيه حديثاً عميقاً عن المصطلح وقيمته وخطره، فيقول: "ومن هنا كان خطر المصطلح، فهو يأتي معبّأ بالمعاني، مشحوناً بالمضامين الّتي تغرّب النّفس وتقتلع الفكر من منابته وأصالته لترمي به في مهاوي الضّياع".



ويبيّن كذلك في موضع آخر من كتابه أنّ مسألة المصطلحات من أهمّ المسائل الّتي يحسن بنا التّنبّه عليها والالتفات إليها ونحن نخاطب الآخر فيقول: "ومن هذه المسائل: قضيّة المصطلحات، فنحن كثيراً ما نستعمل -في معرض الدّفاع عن ديننا- ألفاظاً ومصطلحات توقع في الارتباك، وتؤدّي معاني متناقضة، ومن هذه الألفاظ أنّ الإسلام دين الاشتراكيّة، ولكنّ الاشتراكيّة بعد ذلك مصطلح علميّ يدلّ على مذهب اجتماعيّ اقتصاديّ متكامل لا يجوز تقطيع أوصاله باقتطاع بعض ملامحه لتدلّ عليه كلّه، كما أنّ الإسلام -عند أهله وكما أراده الله- نظام متكامل للحياة، قد تشترك فيه ملامح من أنظمة أخرى، ولكنّه يقيناً يختلف عنها في مجموعه اختلافاً أساسيّاً".



ويشير كذلك إلى أنّ الآخر يقدّم لنا هذه المصطلحات بسبب التّرجمة، فيقول في حديثه عن مصطلح طالأصوليّة": "ثمّ نشأت لفظة الأصوليّة، وهي لفظة دسّوها علينا ترجمة في لغتهم من مصطلح لظاهرة نشأت عندهم -لا عندنا- ثمّ عمّموها علينا، بل كادوا يحصرونها فينا، وهي عندنا نسبة إلى علم من علوم ديننا يعتمد عليه الفقه كلّه، ولا يكون إلا به، ولكنّ اللفظ سرّب إلينا، فابتلعناه، وأخذنا نردّده، واختلطت علينا المعاني".



وأختم حديثي هذا بأنّ في شيخنا خلقاً سمحاً ينضاف إلى سماحاته المتكاثرة، فحين يحدّثه أحدنا يقبل عليه بكلّ فؤاده وسمعه، وإذا كان في أمر علميّ، يشعره انّه يستمع إليه أوّل مرّة، وهو يذكّرنا بقول سعيد بن المسيّب: "إنّ الشّابّ ليحدّثني الحديث فأصغي إليه، وأنا أعلم به من قبل أن يلتقي أبواه"، ويرحم الله أبا تمّام حين قال:



"من لي بإنسان إذا أغضبـتـه



وجهلت كان الحلم رد جوابـه



وإذا صبوت إلى المدام شربـت



من أخلاقه وسكرت من آدابـه



وتراه يصغي للحديث بطرفـه



وبقلبه ولـعـلـه أدرى بـــه".



ليست هناك أي مشاركات.
ليست هناك أي مشاركات.